هذا العام، كانت أنظار العالم برمته متجهة إلى أوكرانيا بسبب الأحداث الخطيرة الحاصلة هناك، والتي تنذر بحرب باردة جديدة وبإعادة ترتيب توازن القوى في الساحة الدولية. وفيما كان الغرب مشغولاً بطرح عقوبات على روسيا بعد اعتباره السياسات الروسية في أوكرانيا تهديداً «للأمن والسلم العالميين»، كان الروس – ولا يزالون - يزحفون بعتادهم إلى القارة المتجمدة الشمالية، إذ أطلقوا مركز قيادة عسكرية جديد هناك، صار فاعلاً منذ بداية الشهر الحالي، كذلك ضمّوا «يايا»، الجزيرة القطبية الصغيرة المكتشفة حديثاً، إلى أراضيهم.
مركز قيادة عسكري شمالي جديد ابتدأ العمل به منذ بداية الشهر الحالي، يتضمّن الأسطول الروسي الشمالي، ولواءين عسكريين، بالإضافة إلى قوات جوية وقوات دفاع جوي ستضاف إليه عام 2017، كما يشرح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في أحد تصريحاته. فمنذ شهر تشرين الأول، يحضّر الروس لهذا التسلح المستجدّ في القارة المتجمدة الشمالية عبر العمل على بناء 13 مطاراً عسكرياً، ومنظومة دفاع أرض – جو، بالإضافة إلى عشرة رادارات، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الروسية "ريا نوفوستي" عن رئيس مركز إدارة الدفاع الوطني الروسي الجنرال ميخائيل ميزينتسيف.
يبدو واضحاً أنّ روسيا تعمل على تعزيز مواقعها في المحيط المتجمد الشمالي وتحديث إمكاناتها ضمن استراتيجية تمتدّ حتى عام 2030، وهذه الرغبة الروسية في التسلح في القطب الشمالي ليست وليدة اللحظة ولا وليدة الظروف السياسية والاقتصادية التي تمرّ بها روسيا، بل إنّ الروس يحاولون تثبيت وجودهم في المنطقة منذ مدّة. ففي العام الماضي، تعهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم الاستسلام في ما يتعلّق بتحقيق مصالح بلاده في الشمال، وأعطى إيعازاً لوزارة الدفاع الروسية بالقيام بالخطوات الكفيلة بحماية مصلحة روسيا في المتجمد الشمالي.
وتكلل هذا السعي الروسي الاستراتيجي إلى التسلح في القطب الشمالي بعقيدة مستحدثة للبحرية الروسية، تضع نصب عينيها حماية مصالح روسيا في المنطقة، عبّر عنها رئيس سلاح البحرية الأميرال فيكتور تشيركوف أمام مجلس البحرية في الحكومة الروسية الأسبوع الماضي. ولأهميتها، سيراقب الروس القارة البعيدة عبر قمرين اصطناعيين، «أركتيكا – أم1» و«أركتيكا – أم2»، بهدف رصد بيئتها ومناخها المتغير.

فما هي الدوافع التي تحثّ الروس على بسط نفوذهم في القطب الشمالي؟

المحيط المتجمد الشمالي: «الشرق الأوسط الثاني»


رفرف العلم الروسي عام 2007 من قعر غواصة روسية على مقربة من قمة لومونوسوف في القطب الشمالي، التي يعتبرها الروس امتداداً للجرف القاري التابع للأراضي الروسية، في سياق بعثة علمية لاستكشاف هذه المنطقة الغامضة من العالم. اعتبرت الدول الأربع الأخرى المحاذية للقطب (الولايات المتحدة، النروج، كندا، الدانمارك) هذه الخطوة الروسية بمثابة استعراض، فيما أكّد الروس أنّ أهداف البعثة علمية بحتة، بهدف استكشاف ما تحمله طبيعة هذا الاقليم. إن القارة المتجمدة الشمالية هي البقعة الوحيدة الصامدة على الأرض من تطفّل الإنسان، مواردها غير مستثمرة، بل غير معروفة بالكامل. هي أرض غنية وذات موقع استراتيجي مهمّ، سيبرز دوره بعد عقد من الزمن، على الأقلّ، في ظلّ التغيرات المناخية التي تنذر بذوبان جزء من جليد القطب الشمالي. يقال إنّ القطب الشمالي هو «الشرق الأوسط الثاني» بحسب ما وصفته صحيفة "الغارديان" البريطانية في مقال نشر في تشرين الأول 2014، في دلالة على ما يحمله من موارد طبيعية استراتيجية ومهمة بالنسبة إلى الدول الكبرى في العالم.
تقدّر نسبة النفط الموجود في أعماق الجليد بـ 17 في المئة من الاحتياطي العالمي، ونسبة الغاز الطبيعي بـ 30 في المئة، مجمّدة تحت برد القطب، وتنتظر من يستثمرها. إن هذه الموارد الطبيعية بمفردها هي سبب كافٍ لروسيا، والدول المجاورة الأخرى للقطب، وحتّى الدول غير المجاورة، للسعي إلى وضع يدها عليه حتى تنال قسطاً من هذه الثروات المهمّة. ومع ذوبان الجليد التدريجي، لن تبرز فقط الموارد الطبيعية غير المستثمرة، بل ستتكشف طرق تجارية جديدة أبرزها «الطريق البحري الشمالي» التي ستربط أوروبا بآسيا مباشرة وتشكل بديلاً من قناة السويس، طريق ستختصر الوقت والكلفة.
إن أكثر ما يشغل بال الدول الخمس الأبرز المحاذية للقطب الشمالي، هو هذا التبدّل المناخي الذي سيؤدي إلى تغييرات عديدة في مفاهيم سياسية وعسكرية وتجارية كوّنتها على مدى سنوات. تتجنّب الدول الخمس عقد أي اتفاق ملزم في ما بينها بما يخص القطب الشمالي، فهي لا تريد حصر نفسها باتفاق مماثل قد يؤدي إلى تعقيدات في ما يتعلق بتقسيم الجرف القاري، بل يحكم علاقة هذه الدول «مجلس القطب الشمالي». يضمّ هذا المجلس كندا، السويد، الدنمارك، فنلندا، ايسلندا، النروج، روسيا والولايات المتحدة الأميركية، الهدف منه تنظيم أي مشكلة قد تطرأ على القارة المتجمدة الشمالية، ولكن قراراته لا تملك أية قوة إلزامية على أي من الدول الموجودة فيه. خمس من الدول المشاركة في هذه المنظّمة تنتمي إلى حلف الناتو، وهي كندا الدانمارك النروج الولايات المتحدة وايسلندا، وهنا يظهر البعد الدولي والاستراتيجي لهذا الصراع غير المعلن على القطب.
لكلّ من هذه الدول مصالح مماثلة للمصالح الروسية في القطب، وهي وضع اليد على ما أمكن من الموارد الطبيعية، هي حرب باردة اقتصادية، فالهدف اليوم لم يعد السباق على التسلح كما كانت الحال في القرن الماضي، بل صار النصر لمن يصل أوّلاً إلى مخزونات الأرض الطبيعية. إنّ التوتر السياسي بين روسيا والغرب لا شكّ سينعكس سباقاً في استثمار موارد القطب، مع أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن في خطابه أمام المركز القومي لإدارة عمليات الدفاع الروسية في 19 كانون الأول 2014 أنّ العمليات في القطب الشمالي هي ضمن الحدود السليمة والطبيعية، في إشارة إلى تسلح بلاده هناك. في الواقع، إن روسيا واضحة جدّاً بما تريده من القطب، هي تطالب بالجرف القاري الذي تقول إنه تابع لأراضيها، وبعكس ما يمكن توقّعه، فبعد الأزمة الأوكرانية لم تتراجع روسيا أو تنكفئ في محاولة فرض سيطرتها على مناطقها في القطب، بل ثابرت صوب ذلك.
قد يعوّل الغربيون على التراجع الاقتصادي الروسي لإضعاف موقع روسيا في التفاوض في ما بعد على المحيط المتجمد الشمالي أو ينتظرون حلَّ مشكلة أوكرانيا قبل الشروع في أية خطوة أو ردّ فعل بما يخص منطقة المحيط المتجمد الشمالي. في هذا الخصوص، ظهرت بعض المطالبات الخجولة من إحدى الدول المجاورة للقارة الشمالية، فالدانمارك صرّحت، منذ أيام قليلة، بأنّ الجبال الموجودة تحت الجليد ـ ومن ضمنها قمة لومونوسوف المعتبرة روسية ـ هي امتداد طبيعي ليابسة غرينلاند، بحسب مقال نشر في موقع مؤسسة «بلومبرغ فيو» الإعلامية الأميركية في 16 كانون الأول 2014.
ومع هذا السكوت شبه التام من الغرب، يبدو أكيداً أن لا شيء سيوقف الروس عن إثبات وجودهم في منطقة تعتبر امتداداً حيوياً واستراتيجياً لبلادهم، منطقة غنية وغير مستثمرة، قد تصبح مركز اهتمام العالم بعد سنوات.