مرة أخرى تعود جزر الكوريل الجنوبي إلى واجهة الأحداث لتُظهِر الخلاف التاريخي بين اليابان وروسيا، وإمكانية نشوب النار المستعرة تحت الرماد، بيد أن الالتباس لا يزال يحيط بصورة السياسة المستقبلية التي قد يرسمها البلدان حول علاقتهما، في ظل حديث طوكيو عن خرق عسكري نفته موسكو، التي من المتوقع أن يزورها رئيس الوزراء الياباني السابق يوشيرو موري، هذا الشهر لبحث مسائل متعلقة بالنزاع على الجزر.
الخرق العسكري، تمثّل بإعلان اليابان عن دخول مقاتلتين حربيتين روسيتين مجالها الجوي لفترة وجيزة قرب جزر الكوريل المُتنَازع عليها وجزيرة هوكايدو الشمالية. «اتّهام» نفاه المتحدث باسم المنطقة العسكرية الشرقية في الجيش الروسي رومان مارتوف، قائلاً إن «طائرات اسطول المحيط الهادئ تُحلّق بانتظام في المنطقة وتتوخى احترام الأنظمة الدولية الى أقصى حد، من دون اختراق الحدود».
الا أن الحديث عن تحليق طائرات روسية في المنطقة ليس بالأمر المُستبعد، وخصوصاً أن روسيا تقوم حالياً بمناورات عسكرية في بحر أوخوتسكو حول جزر الكوريل نفسها. لعل الدب الروسي أراد من خلال هذا الخرق، فيما لو صحّ وقوعه، أن يستعرض عضلاته في الشرق الأقصى، كرد ساخن على احتفال اليابانيين بيوم «الأراضي الشمالية»، الذي تجدد خلاله طوكيو كل سنة المطالبة باستعادة السيادة على الجزر المُتنازع عليها والتي تطلق عليها الأراضي الشمالية. وروسيا التي تستميت اليوم للحفاظ على مواطئ أقدامها في الشرق الأوسط والقوقاز تنظر الى الشرق الأقصى كمنطقة حيوية واستراتيجية مهمة قد تعزّز مواقعها في منافستها الحامية للولايات المتحدة.
أما هذه الجزر فهي 14 جزيرة تقع بين اليابان وجزيرة ساخالين، وتقسم إلى جزر سلسلة الكوريل الكبيرة، وضمنها جزيرة إيتوروب ( 3 آلاف كيلومتر مربع)، وكوناشير (1.5 ألف كيلومتر مربع). وسلسلة جزر الكوريل الصغيرة، وضمنها جزيرة شيكوتان (182 كيلومار مربع)، إضافة الى 5 جزر تابعة لأرخبيل هابوماي ومجموعات من الجزر الصغيرة (تبلغ مساحتها العامة 118 كيلومتراً مربعاً).
ولعل الوزن الاقتصادي والعسكري لهذه الجزر هو الذي يحرّك ملف الخلافات بين الامبراطورية والدب. أهمية استراتيجية تجعل الأرخبيل بمثابة خط مرور في بحر أوخوتسك ومنطقة الشرق الأقصى الروسية المطلة على المحيط الهادئ. ويضمن موقعه أمن طرق المواصلات المؤدية إلى القواعد العسكرية الروسية الواقعة في شبه جزيرة كامتشاتكا كراي، ومراقبة مياه وأجواء بحر أوخوتسك.
المفارقة أن تطورات يوم أمس حول الجزر الأربع المُتنازع عليها في أرخبيل الكوريل الجنوبي، قد تزامنت مع تجديد مطالبة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، بـ«التوصل الى حل يقبله الطرفان لهذه المشكلة الأخيرة الكبيرة المتبقية بين اليابان وروسيا». المسؤول الياباني، أكد أن «الحكومة تعتزم اتباع سياستها الأساسية القائمة على تسوية قضية الأراضي ثم توقيع معاهدة سلام».
وعلى ما يبدو أن المناورات والحديث عن اختراق عسكري جوي لإمبراطورية الشمس، قد جدّد المشكلة وحرّك قضية الخلافات الثنائية، بعد نحو سبعة أشهر من زيارة قام بها رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف الى سلسلة الجزر النائية أثارت احتجاجات طوكيو.
تبقى النقطة الأهم في هذه القضية المصالح الاقتصادية المشتركة بين طوكيو وموسكو، والتي لم تقف قضية الأرخبيل عائقاً أمام تطويرها، خصوصاً منذ العام 2000. وطرحت اليابان في عام 2006 مبادرة حول توطيد التعاون الروسي الياباني في الشرق الأقصى. وقد يتضمن هذا التعاون استصلاح حقول الفحم والحديد وتحديث السكة الحديدة العابرة في سيبيريا وإنشاء مراكز المواصلات الكبرى والطرق والانفاق والجسور وغيرها من مشاريع البنية التحتية.
ومن الواضح أن غنى الجزر بالثروة السمكية ومعادن نادرة يجعلها هدفاً للطامعين.
فالسيطرة الروسية على الجزر تعود الى النصف الأول من القرن الثامن عشر. غير أن هذه السيطرة مرت في حركة مد وجزر تبعاً للتحولات التاريخية والمعارك التي خيضت بين البلدين مراراً وتكراراً على مدى قرون.
ولعل حرب القرم التي خاضتها روسيا في عام 1855، ضد فرنسا والامبراطورية العثمانية وبريطانيا وسردينيا، أجبرتها على توقيع اتفاقية «سيمود» التي تنازلت بموجبها لصالح اليابان عن جزر الكوريل الجنوبية (هابوماي وشيكوتان وكوناشير وايتوروب) مقابل احلال السلام الأبدي والصداقة الدائمة. تلتها اتفاقية بطرسبورغ في عام 1875 والتي تنازلت روسيا بموجبها عن سلسلة جزر الكوريل كلها مقابل اعتراف اليابان بحق الملكية الروسية على جزيرة ساخالين.
تنازلات لم تتوقف من الجانب الروسي إذ وقعت على معاهدة سلام في مدينة بورسموث في عام 1905، تنازلت بموجبها عن حقوقها في القسم الجنوبي من «ساخالين».
الا أن مشاركة الاتحاد السوفياتي في الحرب الحرب العالمية الثانية الى جانب الحلفاء، أعادت اليه جزءاً من الجزر التي يقول بملكيتها، فقد أدى وقوف اليابان الى جانب دول المحور الى فقدانها في حربها مع الاتحاد السوفياتي عام 1945 القسم الجنوبي من جزيرة ساخالين وجزر الكوريل. وأعلن الاتحاد السوفياتي عن ضمها إلى اراضيه.
بيد أن البيان المُشترك حول تطبيع العلاقات بين البلدين عام 1956، تضمن فقرة تتنازل بموجبها موسكو عن جزيرتي هابوماي وشيكوتان الى طوكيو، بشرط ألا يتم ذلك إلا بعد توقيع معاهدة السلام بينهما. ورغم التحولات التي عصفت بالمنظومة الشيوعية عام 1990 وعودة روسيا الى الخريطة، لا تزال معاهدة السلام هذه معلّقة بانتظار توصل البلدين الى معاهدة تنهي قضية الجزر من ضمن حل شامل للملفات الخلافية بينهما.