الإيطاليّون سعداء. المتدينون منهم يقدّرون «شجاعة البابا بالاعتراف والتنحي»، أما خصوم الكنيسة فلن يمتعضوا من «البلبلة» داخل الكنيسة، وخصوصاً أن عهد البابا الأخير ترافق مع سلسلة من الفضائح التي أضافت الثقوب إلى جدران مؤسسته. ولكن، على نحوٍ ما، يمكن اعتبار «استقالة» البابا الأخير انتصاراً (رمزيّاً) للسينما الإيطاليّة، وللتراكم الثقافي الذي أرساه كبار المخرجين في هذه السينما من فيلليني وبازوليني مروراً بروبرتو بنيني ووصولاً إلى ناني موريتي.
لقد خاضت السينما الإيطاليّة، تحديداً، صراعاً حاداً مع الكنيسة، التي تُعَدّ مكوناً حيويّاً في الهويّة الإيطاليّة الجماعيّة، وخلال الحقبة التي تلت الحرب العالميّة الثانيّة، توهج هذا النقد وأثار سجالاً واسعاً في المجتمع الإيطالي. أبدع فيلليني في مشهد عرض الأزياء داخل الكنيسة في «روما مدينة مفتوحة»، وصوب بازوليني في «ماما روما» بدوره على العلاقة الملتبسة بين الإيطاليين وكنيستهم، حيث تسيطر العادة الجماعيّة على الإيمان الفرداني، ما منح الكنيسة صلاحيات واسعة بوصفها ملجأً الجماعة. واليوم، يستغرب العالم كيف لرجلٍ مثل البابا أن يتنازل عن سلطة وافرة إلى هذا الحد. إنها استقالة تباغت العالم بلا شك، وكأن المخرج الإيطالي ناني موريتي هو الوحيد الذي رآها في حياة سابقة، أو فيلمه السابق: «أصبح لدينا بابا». في جميع الحالات، لم يكن الفيلم، الذي أثار حفيظة المتدينين في العالم، إلا انعكاساً لثقافة سينمائيّة إيطاليّة راسخة، ترى في الكنيسة سجناً باقياً يعود إلى حقبة ما قبل النهضة الأوروبيّة. رفض موريتي في فيلمه الموقع «الاستعلائي» للكنيسة، محاولاً أنسنة أهلها عبر تحويلهم إلى مواطنين لا إلى مرسلين من الغيب.
«أصبح لدينا بابا» فيلم أشبه بنبوءة طازجة؛ إذ يتناول مسرحيّة انتخاب البابا في الفاتيكان، ويصل الأمر بالمخرج إلى دخول حيوات «البابوات الصغار» الذين يعيشون خارج الواقع، أو خلف مسافة لا ترقى إليه، العالم يبدأ بعد الخروج من بوابة الفاتيكان، وينتهي بالعودة إليه. في الفيلم، يرفض البابا المنتخب الصعود لتحيّة الجماهير المحتشدة من كل العالم لتحيّته، ويفرّ هارباً بعد لقائه المعالجة النفسيّة. في اللقاء عينه، يقرع موريتي جرس الكوميديا السوداء، مستخدماً أهم حيَله: النكتة. يجيب البابا المفترض (ميشل بيكولو) المعالجة عندما تسأله: «ماذا تعمل؟» بعد صمت طويل، قائلاً: «أنا ممثل». وفي مكان آخر، يدور البابا في شوارع روما، دون أن يعرف أحد هويّته الحقيقيّة، فتارةً يشاهد مباراة كرة قدم، وتارة أخرى يسكن في فندق عادي، حيث يتعرف إلى المسرح.
وفي أحد المقالات التي علّقت أمس، على استقالة البابا، عنونت صحيفة «كوريري ديلا سيرا» الإيطاليّة: «البابا ينهي حياته الثيولوجيّة. انتهى البابا كرجل دين بمجرد استقالته، كما لو أننا في «أصبح لدينا بابا»». في الفيلم، يلعب ناني موريتي، المعالج النفسي مع الكرادلة. يدخل إلى قلوبهم، ولا ينسون أنهم «أقل مرتبة من البابا»، فيبقون على قداسته ريثما يظهر ويلقي التحيّة على العالم. لكنه أمس، في روما، خرج ليلقي التحيّة المعاكسة. البابا استقال، ولم يعد لدينا بابا.