يبدو أن الزعيم الكوري الشمالي الشاب كيم ـ يونغ أون، قد نجح بتعزيز نفوذه داخل جمهوريته من خلال رفع مستوى التحدي، إلى ذروته، في وجه ضغوط الخارج بمن فيه الدول الصديقة.
وفيما لا يزال الجدل دائراً حول من يحكم كوريا الديموقراطية الشعبية (الشمالية) في ظل حداثة تجربة الزعيم الشاب، الذي تسلّم السلطة عقب وفاة والده كيم يونغ إيل في كانون الأول عام 2011، يحاول أون بعد أقل من سنة من تعيينه أميناً عاماً أول للجنة الدفاع الوطني (أعلى هيئة قيادية بعد رئاسة الجمهورية)، أن يثبت نفوذه في البلاد عبر تجربة نووية هي الأولى من نوعها في عهده والثالثة في عمر الدولة الشيوعية.
كيم (30 عاماً)، الذي لا يزال يحكم بمساعدة عمّته (عضو قيادة الجيش، عضو المكتب السياسي في حزب العمال الكوري الحاكم) كيم كيونغ هوي، وزوجها الجنرال تشانغ سونغ ثايك (عضو المكتب السياسي)، يبدو أنه قد باشر طريقه نحو تسلّم دفة السفينة التي تواجه عواصف العالم وأعاصيره، بما فيها الدول الصديقة (الصين وروسيا).
فبيونغ يانغ التي يشتد عضدها بفعل دعم الصين السخي ومؤازرة روسيا المحدودة، أصرّت على إجراء تجربتها النووية رغم كل ما أُثير خلال الأسابيع الأخيرة من انتقادات وقلق ومخاوف وتهديدات، انضمت إليها موسكو التي دعت إلى استئناف المفاوضات بين بيونغ يانغ والقوى الخمس الأخرى (روسيا والصين وأميركا واليابان وكوريا الجنوبية)، وبكين التي هددت «ابنتها المدللة» بخفض المساعدات لها إن أجرت هذه التجربة.
ولعله ليس من قبيل المُصادفة أن تأتي هذه التجربة في أعقاب مناورات عسكريّة أميركية ــ كورية جنوبية في البحر الأصفر (غرب)، تعتبرها الدولة الشيوعية استفزازاً لها. والأهم من ذلك أن التجربة النووية «الناجحة»، التي تأتي بعد نحو شهرين من إطلاق بيونغ يانغ صاروخاً يحمل قمراً صناعياً إلى الفضاء عدّه الغرب صاروخاً باليستياً قد يحمل رأساً نووياً، جاءت بعيد إطلاق كوريا الجنوبية، في 30 كانون الثاني 2013، صاروخ «نارو» حمل قمراً صناعياً إلى المدار، معلنة دخولها حقل المنافسة مع جارتها الشمالية على اقتحام الفضاء رغم تجربتين سابقتين فاشلتين (في 2009 و2010).
لكن من الواضح أن النظام الستاليني الحديدي لا يزال متفوقاً استراتيجياً، ويشكل بيضة القبان في منطقة الشرق الأقصى، بعد إضافة تجربة نووية جديدة إلى رصيده (أجرى تجربتين سابقتين عامي 2006 و2009)، فضلاً عن تجاربه لصواريخ غير تقليدية أبرزها صاروخ «تايبو دونغ 1 و2». فباعتراف وزارة الدفاع الكورية الجنوبية، في تقرير صدر أخيراً، لدى كوريا الشمالية التكنولوجيا اللازمة لتطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات يبلغ مداها أكثر من 10 آلاف كيلومتر.
لم تأبه بيونغ يانغ لتهديدات أعدائها، ولا لتحذيرات أصدقائها، ولم تعر أي أهمية لتهديد واشنطن «بوضعها مجدداً على القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب، إذا مضت قدماً في تجربتها النووية الثالثة»، حسبما أعلنت هذا الأسبوع.
ولعل ما يميّز هذه التجربة «العالية المستوى» أنها تستخدم للمرة الأولى قنبلة مصنوعة من اليورانيوم، فيما كانت سابقاً تستخدم البلوتونيوم في قنابلها (البلوتونيوم قابل للانشطار ولكن لا ينشطر بسهولة اليورانيوم).
السؤال الأهم المطروح اليوم على المستوى الجيو ــ استراتيجي في شبه الجزيرة الكورية ومنطقة شرق آسيا: ماذا سيكون موقف بكين وموسكو إزاء هذه التجربة التي أُجريت في نفق أسفل جبل بارتفاع 200 متر يقع شرق البلاد على بعد نحو 100 كيلومتر من الحدود مع الصين و200 كيلومتر من الحدود مع روسيا؟
لكن جواب الزعيم الكوري هو أنه مصرٌّ على مواصلة سياسة والده كيم يونغ إيل وجده مؤسس الدولة كيم إيل تسونغ، بترسيخ العقيدة الزوتشية للدولة التي تقوم على مبدأ الاعتماد على الذات وشعار «الإنسان هو سيد كل شيء ومقرر كل شيء».
وفي أي حال، من المُتفق عليه أن أون الذي عبّر منذ نحو شهرين عن قبوله ــ من حيث المبدأ ــ باتفاق للسلام مع الشطر الجنوبي، يعمل على تعزيز نفوذه داخلياً بعدما بثّ رسائله الخارجية. فانعقاد مؤتمر أمناء خلايا حزب العمال الحاكم، في بيونغ يانغ نهاية الشهر الماضي، كان مهماً واستثنائياً. أهميته أنه الرابع من نوعه في تاريخ الدولة. أما استثنائيته فتكمن في حضور الزعيم الشاب على غير ما جرت عليه العادة في عهد والده وجده، اللذين لم يكونا يحضران هذا المؤتمر.
لقد أراد كيم من خلال ذلك تأكيد حضوره داخل تشكيلات الحزب الحاكم لتعزيز دوره زعيماً على الساحة، وخصوصاً أن هذا المؤتمر ركّز على «إجراء تحسين مستمر وتقدم في الثورة والبناء» والاهتمام بتحسين وضع الاقتصاد، وضرورة القضاء على البيروقراطية داخل الحزب، بما يشير إلى بدء إصلاحات على مستوى البنية الحاكمة.
في نهاية المطاف لن يكون وضع الصين مُريحاً في ظل عناد «الطفلة المُدللة»، وما تواجهه بكين من ضغوط دولية للتأثير على حليفتها، بينما تنظر موسكو بقلق إلى التجربة النووية الثالثة؛ فالمعسكر المنافس للغرب اليوم يحاول تعزيز نفوذه بعيداً عن الانجرار إلى حروب لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولا سيما أن أي خضّة أمنية في البحر الأصفر المليء بأرخبيلات وجزر «موقوتة» تتنازع عليها دول المنطقة، لن تكون في مصلحة أي طرف.