برلين | رابط أكثر من أربعمئة مواطن ألماني في وسط العاصمة وأمام ما بقي من جدار برلين التاريخي طوال عطلة الأسبوع لمنع الشرطة الألمانية من تنفيذ برنامجها بهدم القسم الباقي من هذا الجدار لصالح المصارف والشركات العقارية. وتأتي خطوة هدم هذا القسم المعروف باسم «إيست سايد غاليري» تنفيذاً لخطة باشرتها الشركات العقارية الكبرى مع عدد من المصارف الألمانية، هدفها شراء الأراضي والعقارات السائبة والمتروكة من مخلفات نتائج الحرب العالمية الثانية بأسعار زهيدة جداً، بحجة إقامة الأبنية والعقارات عليها. وبالتالي تحويلها إلى مناطق «حيوية وحديثة»، كما جاء في التصاريح الرسمية التي رفعتها الشركات والمصارف الألمانية إلى المجلس البلدي للعاصمة الألمانية.
ويصيب هذا النوع من «الاستملاك القسري» معظم المدن التي شهدت حروباً وقتالاً أدّى إلى دمارها أو وفاة أصحابها، كحال وسط مدينة بيروت أو مدينة برلين، وربما لاحقاً العديد من المدن السورية التي تشير بعض الصور الفوتوغرافية إلى دمارها الكامل.
فعلى ما يبدو، فإن هذه الخطة «الاستملاكية» للمناطق المهدّمة والمعالم التاريخية السائبة في برلين، تشبه تماماً ما سبق أن تعرّض له وسط بيروت، وفقاً لمشروع شركة «سوليدير» (الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار بيروت والتي أنشأتها الحكومة اللبنانية في عام 1994) وهو المشروع الذي قضى على معالمها التراثية، وتمّ استملاكها بأسعار زهيدة جداً. وبالتالي حوّل المشروع هذا الوسط، الذي كان يضجّ بالحياة والحيوية ويحيوي المعالم التاريخية التراثية، إلى مدينة أشباح سائبة، تبحث عن «زبون ضائع» في مقاهيها بحجة الإعمار والتطوير.
أطول غاليري في العالم
ولم ينتبه البرلينيون للاجتياح المصرفي ـــ العقاري وحال الاستملاك الزهيد لوسط عاصمتهم إلا في عطلة الأسبوع الماضي عندما حاولت الشركات العقارية والمصارف الألمانية الاستعانة بالشرطة لهدم القسم الباقي من جدار برلين التاريخي، والذي يحمل لوحات فنية رسمها الفنانون الألمان لتعبّر عن تاريخ مآسي العاصمة.
فقد ازدان هذا القسم المتبقي من جدار برلين بلوحات غرافيتية حملت العديد من الصور وكأنها تحكي تاريخ المدينة زمن الانقسام بين شرقية وغربية قبل عام 1990؛ لوحة تُظهر سيارة «ترابنت» المصنوعة في ألمانيا الشرقية تحطّم الجدار، أو لوحة لقبلة بين الرئيسين الراحلين السوفياتي ليونيد بريجنيف والألماني الشرقي إريش هونيكر، أو لوحة لجندي ألماني شرقي يقفز فوق الجدار. لوحات فنية ستتحول في خطوتها الأولى من هذا المشروع إلى مبنى من 12 طبقةً لاستقبال 24 شقة سكنية مع ملحقات هذا المبنى من مقاهٍ ونوادٍ ليلية.
وكان المجلس البلدي للعاصمة الألمانية قد تهرّب من الردّ على هجوم وسائل الإعلام التي حمّلته جريمة طمس المعالم التاريخية للمدينة والخضوع لسيطرة رأس المال والشركات العقارية، بالقول إن منح تراخيص الاستملاك يعود إلى السلطات المحلية لأحياء المدن ولا يحقّ له التدخل بهذه القرارات.
ويعني غاليري «إيست سايد» الكثير لمواطني الجانب الشرقي من برلين، وهو يحمل لوحات فنية مميّزة يرغبون ببقائها ونقلها إلى الجيل الألماني الجديد. وعليه، يبقى الجانب الشرقي من الجدار، بما يحمله من لوحات معبّرة، تاريخاً فنياً حيّاً في ذاكرة أبناء العاصمة ومعلماً سياحياً مقصوداً.
ويرفض بعض الفنانين الألمان المشاركين في التظاهرة لمنع هدم «الغاليري» حجة المصارف والشركات العقارية بأن وسط برلين مهجور وبحاجة إلى تطوير، مؤكدين أن هذا المتحف الفني هو «غاليري في الهواء الطلق» وبات رمزاً سياحياً على مطبوعات ومنشورات شركات السفر والسياحة المشاركة في «المعرض الدولي للسياحة» الذي يقام سنوياً في برلين وتشارك فيه جميع دول العالم (هذا الأسبوع من 6 آذار حتى العاشر منه)، والذي تؤكد البورصة السياحية الألمانية أن نسبة الزوار الأجانب لهذا القسم المتبقي من الجدار باتت تفوق نسبة زوار متاحف برلين وبعض معالمها. من ناحيته، قال الرسام تيودور هورست، وهو كان بين المتظاهرين الرافضين للمشروع: «أنا كنت أكثر المتحمّسين لهدم الجدار قبل 24 عاماً ورسمت على ما بقي منه لوحات كبيرة معبّرة عن الحرية والوحدة، ولكن لم أتوقع استيلاء الشركات العقارية على ذاكرة البرلينيين وتحويلها إلى شقق سكنية للبيع».
ورأت الفنانة نادين سواير أن «الموضوع ليس سياسياً على الإطلاق... إن إيست سايد غاليري هو معرض فنّي حيّ لذاكرة المدينة، والأكيد أن هدف الشركات العقارية والمصارف ليس تطوير الفن، بل ربح المال وبالتالي إنتاج عاصمة باهتة من دون تاريخ، ولاحقاً السيطرة على قرار العاصمة، مضيفة إن «الشركات تتملك العقارات بمبالغ زهيدة وحجتها أن هذه العقارات متروكة وسائبة وأنها بحاجة إلى تطوير... هكذا يتم الاستيلاء على تاريخ العاصمة وتحويله إلى مقاه وبارات».