سمات عديدة أثارت حفيظة كثير من الفنزويليين في الرئيس الراحل هوغو تشافيز. لم ترُقهم مبالغته في الوعظ الثوري؛ إذ يرون أن «الزائد أخو الناقص». حتى إنهم نظروا إلى التعديل الدستوري الشامل، الذي أجراه عام 2007، على أنه محاولة سطو على صلاحيات ديكتاتورية، وهو ما تجلّى في صناديق اقتراع قالت لا لتشافيز، وكانت المرة الوحيدة التي كانت أكثرية الشعبية ضد الكوماندانتي في سنوات حكمه.
هذه الفئة من الفنزويليين، التي تميل إلى اليسار، أبدت انزعاجها من الشخصنة السياسية وأيقنة القائد، التي اعتمدت في الظاهرة التشافيزية. هذا الشعور يشبه عقدة الزعيموفوبيا المتجذرة في الجينات العربية. هذه الفئة لم تقترع لتشافيز في حياته للأسباب السالفة، لكن لم تصوّت ضده. اليسار الفنزويلي يحتاج إلى مراجعة لسنين حكمه وتصحيح بعض الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبت. لكن أهم اختبار اليوم هو أن يثبت أنه لا يختصر بأيقونة أو زعيم.
وهنا ضرورة أن لا يحاول نيكولاس مادورو أن يكون هوغو تشافيز. الكوماندانتي هوغو تشافيز ترك أثراً كبيراً في حياة الملايين من الفقراء وكسب مودتهم، وعلى نيكولاس مادورو أن يؤسس لنظام تقدمي مستدام لا يخاف أن يزول إذا مات الرئيس، ليدفع هؤلاء الفنزوليين إلى التأسيس له.
فالشخصنة هي ما يجعل من خلافة تشافيز أمراً مزعزعاً للاستقرار وموضوعاً سياسياً رئيسياً على الساحة العالمية، وذلك نظراً إلى الثقل الاقتصادي الذي تشكله فنزويلا وتداعيات احتمال تغيير النهج السياسي في البلد. طبعاً لولا الديموقراطية في فنزويلا (على عيوبها وتجاوزاتها) لما كانت هناك مخاوف من التغيير. ولو كان النظام الفنزويلي ديكتاتورياً كما يشاع، لما كانت المعارضة اليمينية متحمسة إلى حدٍّ كبير لفرصة استرجاع الحكم بعد 14 سنة تشافيزية.
فمن المفترض أن تتجه فنزويلا مجدداً في الأسابيع القليلة المقبلة إلى صناديق الاقتراع للمرة الثالثة في ستة أشهر. في 7 تشرين الأول 2012 فاز هوغو تشافيز على منافسه ممثل تحالف المعارضة انريكي كابريليس، تبع هذا الفوز انتصار كاسح للحزب الاشتراكي الموحد في الانتخابات الإقليمية التي جرت في 16 كانون الأول 2012، حين كان تشافيز يخضع لعلاج في كوبا. فاز الحزب الحاكم بـ 22 ولاية مقابل 3 لتحالف المعارضة. انريكي كابريليس كان أحد الفائزين الثلاثة ويرجّح أن يكون مرشّح المعارضة من جديد في الانتخابات الرئاسية. في المقابل، يرجّح أن يخوض نائب الرئيس الحالي نيكولاس مادورو المعركة الرئاسية عن الحزب
الحاكم.
هكذا ستكون الواجهة البروتوكولية للمنافسة الديموقراطية، أما في الكواليس، فالقوى المتنافسة بدأت حربها منذ انتكاسة تشافيز الصحية. داخلياً، سيكون الاقتصاد العنوان الرئيسي للمواجهة. تمرّ فنزويلا منذ شهور بأزمة مالية حادة. سعر صرف البوليفار الفنزويلي في انهيار مستمر يرافقه نقص واضح في المواد الأولية والأغذية المدعومة من الدولة يستغله المعارضون للتجييش ضد الاشتراكيين. أقرت الحكومة سياسات مصرفية جديدة أخيراً لوقف النزف، لكن نتائجها لم تتجل بعد. إحدى عاهات الحكم في فنزويلا هي تفشي الهدر والفساد والجريمة. لم تنشأ هذه الظواهر في الحقبة التشافيزية، لكن لم تنجح إجراءات الحكومات الاشتراكية في الحد
منها.
لكن في الوقت نفسه، يسجَّل لحكومات السنين الـ 14 الماضية برئاسة هوغو تشافيز إنجازات هامة في التنمية المناطقية وتمكين المهمشين تاريخياً في البلد الغني بموارده الطبيعية. مؤشرات المساواة في توزيع الثروات، التعليم، الفقر، والصحة كلها تحسنت كثيراً خلال حكم تشافيز، وذلك وفقاً لشبكة «سي إن إن» الأميركية وأرقام الـ«سي أي آي» والبنك الدولي. خصومه اليمينيون يتهمونه بأنه هكذا «اشترى» مودة الفقراء.
باختصار، سيكون الصدام بشقه الداخلي كلاسيكياً بين يمين ويسار من دون أي تخفٍّ خلف عناوين تمويهية أو تهرّب من «اللغة الخشبية». لكن بعيداً عن الخطاب المؤامراتي، هناك جبهة خارجية حقيقية في الصراع على فنزويلا.
فمن جهة، هناك اليسار اللاتيني الذي كان تشافيز عرابه ويحكم اليوم الجزء الأكبر من جنوب القارة الأميركية، ويهمه أن تبقى فنزويلا على نفس النهج. أما في شمال أميركا، فهناك من يسنّ أسنانه لينهش الثروة الفنزويلية.
شبكة «سي أن بي سي» الأميركية، المختصة بأخبار المال، عنونت أمس: «بعد رحيل تشافيز عيون شركات النفط الأميركية تتجه إلى فنزويلا». الرئيس الأميركي باراك أوباما كان أكثر دبلوماسيةً، أو أقل وقاحةً، عندما قال إنه يريد علاقة بنّاءة مع الحكومة الفنزويلية.
لكن ما لم يقله الرئيس أفرط بقوله الشيوخ بديموقراطييهم وجمهورييهم الذين نعتوا تشافيز بالطاغية.
صبيحة يوم الثلاثاء، وقبل وفاة الرئيس بساعات، طردت كاراكاس ضابطين من القوات الجوية الأميركية كانا في السفارة الأميركية.
نيكولاس مادورو كان قد أعلن أن السفارة كانت تعمل على التواصل مع ضباط في القوات العسكرية الفنزويلية بهدف زعزعة الوضع الأمني في البلاد. البنتاغون اعترف بعملية الطرد. محاولة الانقلاب على تشافيز، التي قام بها رجال الأعمال أو اليمين سنة 2002، كانت بمباركة أميركية على أقل تقدير، وذلك وفق المنقلبين نفسهم. تشافيز اتهم واشنطن وقتها بالدعم المباشر للانقلاب
الفاشل.
لكن رغم التوترات الدبلوماسية وانقطاع تلك العلاقات خلال حكم جورج بوش لأميركا، تبقى العلاقات الاقتصادية بين البلدين بغاية الأهمية للطرفين؛ إذ إن السوق الأميركية هي أكبر مستهلك للنفط الفنزويلي. هذا هو السبب الرئيسي لاستنفار إمبراطورية النفط
والسلاح.