قبل قرابة قرن من الزمن، أدرك خوسيه مارتي وسيمون بوليفار أن أميركا اللاتينية لن تتحرر من الهيمنة الامبريالية إلا من خلال اتحاد شعوبها وتضامنها. حلم بوليفار «برؤية أميركا اللاتينية تشهد تكوّن أكبر أمة في العالم، ليس بفضل مساحتها وثروتها بقدر ما هو بفضل حريتها ومجدها». أما مارتي فكان يسمّيها «أمريكانا»، لتمييزها عن أميركا الأخرى، التوسعية وذات الأطماع الإمبريالية.
وضمن هذه الرؤية صاغ فيديل كاسترو وهوغو تشافيز في بداية الألفية الثالثة «الخيار البوليفاري الخاص بالأميركتين» (ALBA)، الذي أرسى المبادئ التي تحكم عملية تكامل أميركية لاتينية وكاريبية حقيقية، تقوم على أساس العدل، وتعاهدا على النضال المشترك من أجل تحويلها إلى واقع.
ليس من المبالغة القول إنه إذا كانت كراكاس تبكي لموت تشافيز، فإن هافانا تنتحب. العاصمة التي حاول أمهر أطبائها أن يضخّوا في جسد «الكومندانتي» بعضاً من الامل في مواجهة المرض العضال، كانوا يعرفون أنهم لا يسعون فقط الى إنقاذ رئيس دولة صديقة، بل إلى إنقاذ ابن فيديل الذي أحبه الكوبيون وهتفوا له منذ بداية صعوده السياسي في عام 1992، وصولاً الى رحلة التقارب، لا بل التكامل السياسي والاقتصادي والعسكري والصحي والتربوي والثقافي.
منذ بداية مشواره السياسي حظي تشافيز برعاية القائد الثوري الكوبي فيدل كاسترو في مقابل دعم قوي قدمته فنزويلا الى اقتصاد الجزيرة المتداعي، وخصوصاً من خلال تزويدها بالنفط.
وقد كان كاسترو وتشافيز طيلة عقدين صديقين وحليفين، وكان كل منهما أمين سر الآخر يسانده بلا شروط، سواء على الصعيد الداخلي أو الساحة الدولية. وقد لفت المظلّي الشاب انتباه فيدل كاسترو الذي يكبره بـ28 سنة، خلال محاولته القيام بانقلاب عسكري سنة 1995 على الاحزاب القديمة وقيادتها الفنزويلية. وعندما أفرج عنه بعد سنتين، دعي تشافيز الى هافانا فاستقبله كاسترو كرئيس دولة. وبعد انتخاب تشافيز في 1998 كثرت لقاءات الرئيسين حتى نشأ بينهما تحالف تحت أنظار واشنطن.
وقال الزعيم الشيوعي الكوبي يوماً، مانحاً نظيره الفنزويلي راية مناهضة الإمبريالية ودافعاً به الى مقدمة الساحة الدولية كزعيم جديد لليسار الثوري، إن «تشافيز يجب مضاعفته بخمسة آلاف، بل عشرة آلاف وعشرين ألفاً». وسرعان ما أثمر رهان كاسترو، إذ وقّع الزعيمان في عام 2000 اتفاقاً لا يزال ساري المفعول، التزمت بمقتضاه فنزويلا بإمداد كوبا بـ130 ألف برميل من النفط يومياً بأسعار تفضيلية. وكان دعم كراكاس، التي تحولت الى أول شريك اقتصادي لكوبا، بمثابة زورق النجاة للجزيرة التي تعاني من حصار أميركي خانق.
وبعد الانقلاب الفاشل على تشافيز سنة 2002، اقترح عليه صديقه الكوبي في 2003 إطلاق برامج اجتماعية لصالح الجماهير الأكثر عوزاً، في مبادرة ساعدته في 2004 على الفوز في استفتاء طلبته المعارضة الفنزويلية لإقالة الرئيس. وفي العام ذاته، زار تشافيز كوبا، بالتزامن مع الذكرى العاشرة للقائه الأول مع الشعب الكوبي. وفي القمة الشهيرة التي جمعته بكاسترو، أكد الرجلان رفضهما لـ«المنطقة الحرة الخاصة بالأميركتين» (ALCA) باعتبارها أبلغ تعبير عن الأطماع بالهيمنة على المنطقة، وأن من شأنها أن تشكل، في حال وضعها حيّز التطبيق، تعميقاً للنيوليبرالية وأن تؤدي إلى مستويات لم يسبق لها مثيل من التبعية والانجرار».
ومنذ ذلك الحين لم يعد التعاون بين البلدين قائماً فقط على الأسس التضامنية، بل على أساس تبادل السلع والخدمات التي تصبح ذات فائدة أكبر بالنسبة إلى الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لكلا البلدين. وبناءً عليه ألغيت التعرفات الجمركية على الواردات بين البلدين، وأعفي من الضرائب على الأرباح كل استثمار حكومي أو استثمار تقوم به شركات مختلطة، ومنحت السفن والطائرات المعاملة ذاتها، وألغي كل قيد موضوع أمام إمكانية وصول ملكية المستثمِر الحكومي إلى ما نسبته مئة في المئة.
وتعهدت كوبا بتقديم 2000 منحة دراسية سنوياً لطلاب فنزويليين، ووضعها تحت تصرف الجامعة البوليفارية دعم أكثر من 15 ألف مهني في الطب، وعززت الخدمات الصحية ضمن ما يعرف بـ«مهمة الحي الداخلي»، وتشمل أكثر من 15 مليون شخص. في المقابل، تعهدت فنزويلا بتحويل تكنولوجيا ملائمة لقطاع الطاقة، وعرضت على كوبا منحاً للدراسات في قطاع الطاقة وفي مجالات البحث والعلوم، وموّلت مشاريع إنتاجية في قطاعات من بينها الطاقة، البنية التحتية، الزراعة، والخدمات. لكن الدعم الأبرز كان للتسهيلات في دفع الفاتورة النفطية بعد أن وصل الضخ اليومي الى كوبا بما يزيد على 135 ألف برميل.
وبين التكامل الاقتصادي والتحالف السياسي والعسكري، تقف كوبا على مفترق طرق، وتحبس أنفاسها بانتظار المتغيرات في فنزويلا، المعطوفة على متغيرات كوبية في الاقتصاد والسياسة أيضاً. والرهان في هافانا على أن يكمل نيكولاس مادورو، الرجل الأكثر حظاً لخلافة تشافيز، رحلة التكامل مع راوول كاسترو الذي سيسلم الراية أيضاً بعد سنوات لميغيل دياز كانيل.