لا يزال علي أكبر هاشمي رفسنجاني، رغم مشارفته على نهاية العقد السابع من عمره، ذاك الشيخ ــــ الزعيم المثير للجدل. لا أحد يستطيع أن يسحب منه الصفة التي استحقها عن جدارة بكونه أحد أعمدة الثورة وأحد أركان النظام الذي أقيم من بعدها. وفي الوقت نفسه، لا أحد يستطيع أن يتجاهل هذا الكم من الاتهامات التي لاحقته، من تورط عائلته وحاشيته بالفساد، وصولاً إلى تغريده المنفرد في أكثر من لحظة مفصلية خارج الاتجاه العام للقيادة، ما أكسبه صفة الانتماء إلى «مثيري الفتنة». ومع ذلك، ومع إسدال الستار على كل أزمة، يتبيّن أن رفسنجاني، وإن ذهب بعيداً في اجتهاداته وتفسيراته، إلا أنه لم يخرج عن ثابتين: النظام والمرشد، رغم علاقته الملتبسة بهما.
في ما يتعلق بالنظام، موقف رفسنجاني واضح: في الداخل، هو يرى نفسه ضمانة لبقاء النظام. قيمة مضافة وليس رقماً إضافياً. حالة قائمة بذاتها يمكنها أن تستوعب الشرائح المتفلتة من النظام، وإعادتها إليه تحت عباءته. أما في العلاقة مع الخارج فهو ضد سياسة حافة الهاوية. شخصيته البراغماتية وحنكته الدبلوماسية ونظرته إلى إيران ومصالحها، جعلته من أنصار المرونة مع الخارج. يعتقد أن الصراع لا يمنع التواصل. يستشهد بأن العداء السوفياتي الأميركي في أوج الحرب الباردة لم يمنع وجود سفارة لكل منهما في عاصمة الآخر. يرى أن ذلك يضمن المصالح الاقتصادية لإيران ويؤمن استمرار تدفق الهواء إلى رئتها التجارية. موقفان أدخلاه في مغامرات، عن قصد أو من دونه، وجلبا له نقمة التيارات المتشددة.
في الأصل، مشكلة رفسنجاني بدأت بهزيمته الانتخابية أمام محمود أحمدي نجاد الذي خرج من اللامكان في عام 2005 معلناً حرباً شعواء، لم تهدأ يوماً، على رفسنجاني وإرثه وعائلته وحاشيته ومصالحه. وقتها، عتب رفسنجاني على المرشد لكونه غضّ الطرف على ما كان نجاد يفعله، واستغل انتخابات 2009 لينتقم من الرئيس الشاب. فرد عباءته لكل أخصام نجاد ولكل متضرر منه. كانت تلك العباءة واسعة إلى درجة اختبأ تحتها أعداء النظام من شاهنشاهيين ومن شخصيات تقودها سفارات أجنبية تسعى جاهدة لإسقاط النظام برمته. وما زاد الطين بلة، أن ابن رفسنجاني، مهدي، كان يقود بنفسه غرفة عمليات المعارضة، فيما كانت ابنته فائزة تتصدر التظاهرات في الشوارع. وما إن اندلع ما سمّي وقتها «الثورة الخضراء»، حتى تكشّف مدى تورط أجهزة الاستخبارات الأجنبية، البريطانية خاصة، في ما يجري، على ما أظهرت التحقيقات التي أظهرت أيضاً أن كثيراً من الشخصيات الإيرانية كانت متورطة في تلك «المؤامرة»، فيما انجرّ بعض آخر منها بنيات حسنة، تحت عنوان أن طرفي الصراع كانا يخوضانه تحت سقف النظام، وسرعان ما نأى بنفسه مع أول إطلالة للمرشد في أول خطبة جمعة بعد الاقتراع. صحيح أن رفسنجاني لم يظهر في الصورة طوال تلك الفترة، لكنّ المأخذ الأساس الذي أخذ عليه أنه لم يفصل نفسه، يوم انكشف ما يجري، عن المتآمرين على النظام، في خطوة فسّرت بأنه كان يغطّي عن سبق تصور وتصميم «مثيري الفتنة».
أما في ما يتعلق بعلاقته بالمرشد، فهي حكاية أخرى. معروف أن الرجلين أصدقاء عمر. درسا معاً وناضلا معاً، وكانا من أقرب تلاميذ الإمام الخميني إليه، حتى نقل عن مؤسس الجمهورية الإسلامية اطمئنانه إلى أن الثورة ستبقى بخير ما دام خامنئي ورفسنجاني متحدين أحدهما مع الآخر. ومع وفاته، تولى الأول منصب المرشد، بدعم رفسنجاني وتشجيعه، فيما تولى الثاني رئاسة الجمهورية، وحكما معاً إيران، كل في موقعه، إلى حين مجيء محمد خاتمي، والقصة بعدها معروفة. استمرت العلاقة بين الصديقين بالوتيرة نفسها، رغم الاختلاف في وجهات النظر في أحيان كثيرة، محكومة بثابتين: الأول، الاقتناع المطلق لدى خامنئي بأن رفسنجاني لا يمكن أن ينقلب عليه تحت أي ظرف من الظروف، حتى لو توافرت له القدرة. والاقتناع المطلق لرفسنجاني بأن المرشد لا يمكن أن يزيله عن الخريطة السياسة في إيران تحت أي ظرف كان. حالة سمحت لرفسنجاني بأن ينتزع هامشاً لحركته، تحت عنوان أن طبيعة هذه العلاقة وعمقها، ودوره وموقعه في النظام، تسمح له بالاختلاف مع المرشد، ولكن دائماً تحت عباءته. كلام لا يعجب هو أيضاً الفريق المتشدد الذي يشبّه هذا الوضع بوضع مشابه حاول نجاد ترويجه. يستعيد هؤلاء يوم خرج نجاد ليبرر مشاغبته وعدم التزامه الفوري بتوجيهات خامنئي بأن علاقته به هي علاقة ابن بوالده. وقتها قامت الدنيا ولم تقعد. قيل الكثير. الجوهر كان أن علاقة من هذا النوع تحتمل الكثير، تمرد وخروج عن الطاعة والتدلل، فيما خامنئي مرجع ونجاد مقلد. ولي فقيه ومقلد. الأول يأمر والثاني ينفذ. وهو ما ينطبق، بنظرهم، على علاقة خامنئي برفسنجاني.
وبمعزل عن كل ما سلف، لا شك في أن موقع رفسنجاني لدى المرشد مميز، بدليل أن اجتماعاتهما الدورية لم تتوقف يوماً حتى في أسوأ الظروف. كذلك الأمر بالنسبة إلى موقعه في الحياة السياسية ودوره في النظام.
في اجتماعهما الأخير، قبل أي إشارة منه إلى إمكانية ترشحه، خاطب رفسنجاني خامنئي بما يفيد بأن نجاد يبدو مصمّماً على أن يورث السلطة لنسيبه اسفنديار رحيم مشائي، مشيراً إلى أن هذا الوضع خطير ولا يمكن القبول به. عندها ابتسم المرشد، وردّ عليه بما يفيد بأن كل من يجلس على كرسي الرئاسة سرعان ما يعتبرها حقاً مقدساً له يريد توريثه، مشيراً إلى أن «هذا حصل معك (رفسنجاني) ومع محمد خاتمي والآن مع نجاد»، قبل أن يضيف أن هذا أمر لا يمكن أن يحصل في إيران. «كل شخص يأتي يؤدي واجبه ويذهب. لا توريث للسلطة في الجمهورية الإسلامية»، على ما تفيد مصادر وثيقة الاطلاع. بعدها، أعلن رفسنجاني، في محاولة لصدّ ضغوط تجار البازار والإصلاحيين ويمين الوسط عليه للترشح، أنه لا يمكنه أن يقدم على هذه الخطوة إلا بموافقة المرشد. وجلس يراقب. هاجسه كان مغادرة نجاد بلا وريث، إلى أن جاءت الدقائق الأخيرة قبل إغلاق باب الترشيحات. علم أن نجاد ومشائي في طريقهما إلى وزارة الداخلية. رفع سماعة الخط الساخن الذي يربطه بالمرشد. سأله بكل وضوح: هل لديك أي اعتراض إذا ما ترشحت إلى منصب الرئاسة؟ جاء الجواب بالنفي. والفارق كبير بين «لا اعتراض» وبين القبول والتشجيع. ركب سيارته وقام بالخطوة التي سمحت لمجلس صيانة الدستور برفض ترشيح مشائي من دون المخاطرة بأي ردود فعل.



صراع المبدئيين

النقاش في معسكر المبدئيين حالياً حامي الوطيس. غلام علي حداد عادل وعلي أكبر ولايتي ومحمد باقر قاليباف متفقون على التوحّد خلف أحدهم. غلام علي حداد عادل يخطط على ما يبدو للتنازل عن ترشحه في مقابل منافسته على رئاسة مجلس الشورى. لكن الحسم بين ولايتي وقاليباف (الصورة) يظهر أنه صعب. الدوائر المعنية في هذا المعسكر تفضّل ولايتي رئيساً للجمهورية يمثّل صورة إيران في الخارج، على أن يكون قاليباف النائب الأول يتولى الشؤون الداخلية. قاليباف لا يزال يعارض هذه الصيغة. حجّته أن التفاهم على التوحّد تم على قاعدة نتائج استطلاعات الرأي التي يحتل فيها الصدارة، فضلاً عن أنه يقول إنه ضحّى كثيراً وتعب كثيراً من أجل استحقاق هذا المنصب. إنجازاته في بلدية طهران خير شاهد. هناك أيضاً مشكلة سعيد جليلي، المنافس القوي غير المحسوب على أي من الأحزاب، لكن حاضنته الشعبية من صحن المبدئيين أنفسهم.
في المعسكر المقابل، الوضع أقل تعقيداً. مرشح الصدارة ليس سوى حسن روحاني، ظل رفسنجاني. الترجيح أن ينسحب محمد رضا عارف لمصلحته. انقسام الأصوليين بين جليلي وبين المرشح الموحد لـ«تحالف التقدم» أيا يكن، لا شك في أنه سيعزز حظوظه. ومع ذلك لا يزال من المبكر الخلوص إلى استنتاجات. ففي إيران يجب توقّع كل ما هو غير متوقّع.