باريس | كل الكاميرات السياحية مرفوعة باتجاه «قوس النصر» L›Arc de Triomphe في «ساحة النجمة» في باريس. تغصّ الساحة بالزائرين على مدى أيام الاسبوع، سيّاحاً ومتسوّقين وروّاد مقاه. في عطلة الآحاد، تذيب عروض الفرق الاستعراضية الشعبية جليد واجهات المحال التجارية المتراصة على طول جادة الـ«شانزيليزيه». عندما أمَرَ نابوليون بونابارت بتشييد قوس نصر تخليداً لأمجاد جيشه، لم يكن يتخيّل أن سائحاً يابانياً سيأتي يوماً كي يلتقط خصيصاً صورة الى جانب النصب. تبدّلت العصور والحروب ومرّت مواكب كثيرة تحت القوس. وعندما أراد الفرنسيون أن يكرّموا ذكرى قائدهم العزيز شارل دو غول لم يجدوا أبلغ من ساحة النجمة كي يسمّوها على اسمه بعد أربعة أيام على وفاته. لم يتخيّل الـ«دوغوليون» يوماً أن تحمل تلك الساحة أعلاماً غير الأزرق والأبيض والأحمر.
لكن العصر الحديث فرضَ قطر. والفن المعاصر فرَضَ علَماً قطرياً على شكل حبّة «بونبون» (سكاكر) تناطح قوس نابوليون. قطر المولعة بباريس كماركة ثياب فخمة، أرادت أن تحتلّ قلب العاصمة التاريخي، فأجلست سفارتها في أحضان «دو غول» على رأس جادة الـ«شانزيليزيه» على بعد خطوات من قوس النصر... في فندق الماركيز دو كاركانو.
لا شيء يشبه قطر في ساحة شارل دي غول. لا المبنى العريق حيث تقطن والذي شُيّد عندما حدد محافظ باريس شكلها الحالي وأسلوب عمارتها منتصف القرن التاسع عشر. ولا اللوحة التاريخية المعلّقة على أحد جدرانها والتي تخلّد ثورة الطلاب الفرنسيين ضد الاحتلال عام 1940. ولا الحديقة الصغيرة المسوّرة بحديد أخضر عتيق. ولا محلّ الـ«لينجوري» بواجهته الفاتنة مقابل مدخل السفارة، ولا المقاهي التي تشهر عبارة I Love Paris بالأزرق والاحمر على ستائرها البيضاء. ولا شارع تيلسيت التاريخي الذي اشتهر بفنادقه القديمة الفخمة التي تحوي أعمالاً لرسامين ونحاتين عالميين. «دولة قطر State of Qatar» هكذا تنطق اللوحة المثبتة تحت العلم معرّفة عن سكّان المبنى بلغتين لا يستسيغهما الفرنسيون.
«ما هو هذا المبنى؟ وماذا تعني تلك الـ«بونبونة» العملاقة الرابضة في باحتها؟» نسأل المارة على الرصيف المكتظ. يفاجأ معظمهم بوجود التمثال بلونيه الأبيض والنبيذي المشرئب من فوق السور العتيق. «لا نعرف» يجيبون سريعاً ثم يستديرون نحو القوس ويصوّبون عدساتهم. «هي الآن سفارة.. لكن لا أعرف لأي بلد»، يجيب رجل أربعيني. تطلّ الشمس مباغتة الجميع فتخرج لملاقاتها ثلاث نساء في عقدهن الخامس. يجلسن على مقعد عمومي أمام مبنى السفارة وجوههن البيضاء المتعبة من شتاء طال، تعاين المارة وتسرح صعوداً الى قبة قوس النصر. «آآآآ تلك حبّة سكاكر لكنها ضخمة لا أجرؤ على إعطائها لأحفادي» تقول إحداهن وتضحك زميلتاها حين يستدرن نحو باحة المبنى. يجلس رجل مسنّ على الطرف الآخر من المقعد، وعندما نسأله عن السفارة القطرية، يشيح بنظره البارد الى القوس، ينظر طويلاً اليه ثم يقول سريعاً: «يجب أن يتوقفوا! يجب على القطريين أن يتوقفوا»، ثم يغادر. عام 2011 استقرّت السفارة القطرية في ساحة شارل دو غول، بهدوء مدروس، تماماً كما وقّعت معظم الصفقات الشرائية في مختلف القطاعات الفرنسية خلال «عصرها الذهبي» في عهد نيكولا ساركوزي.
«الاستفزاز القطري» كما يسمّيه بعض الصحافيين الفرنسيين، استمرّ مع اختيار قطر وضع ذلك المجسّم من الفنّ المعاصر على شكل حبّة سكاكر صخمة (يبلغ ارتفاعها حوالي 4 أمتار) في حديقة المبنى المقابلة لقوس النصر. «البونبونة» العملاقة بألوان العلم القطري، من تنفيذ الفنانة الفرنسية لورانس جنكيل التي اشتهرت بتصميم حبّات سكاكر ضخمة بأغلفة متنوعة من بينها أعلام دول. «من سمح بوضع حبّة سكاكر بألوان علم أجنبي مقابل نصبنا التاريخي؟» سأل بعض الصحافيين المستفَزّون عام 2011، وتابع آخرون «باحة القصر الملكي في الدوحة تليق بها أكثر». لا جواب من الحكومة الفرنسية الساركوزية ولا تعليق من دولة قطر «الفرانكوفونية». تقول الفنانة الفرنسية جنكيل إنها صممت نماذج حبّات السكاكر الفنية «لكي تذكّر من يراها بفترة الطفولة الجميلة». حبّة قطر في باحة مطبخها الدبلوماسي ــ الاستخباراتي هي أبعد ما يكون عن رسالة الفنانة المرجوّة.
لكن حبّة السكاكر كانت «أهون الشرور». إذ استرسلت قطر بشراء العقارات والمباني الفرنسية التاريخية وباتت محجاً لبعض سياسييها، تزامناً مع دخولها الى ملعب السياسة الدولية والاقليمية.
واليوم لا تكاد تخلو أي صحيفة فرنسية، حتى تلك التي توزّع مجاناً في المترو، من خبر عن صفقة قطرية ما في فرنسا. اللهجة الصحافية، بمعظمها، غير مرحّبة بالأمر. يفوز فريق «باريس سان جيرمان» ــ الذي اشترته قطر منذ سنوات ــ في الدوري الأوروبي وتتحول احتفالات مناصريه الى فوضى وأعمال شغب تشوّه ساحة الـ«تروكاديرو» في باريس. يعلّق بعض الصحافيين في اليوم التالي: «أرادته قطر فوزاً نظيفاً لكن كان للألترس كلمة مختلفة». قطر باتت في كل مكان في فرنسا: في قلب العاصمة التاريخي وفي قصور نهر السين الفخمة التي يحلو لشقيق الأمير القطري أن يهدم فيها جدراناً منحوتة وموقدة أثرية. قطر أيضاً في فنادق السواحل المشمسة، وفي الرياضة والإعلام والعقارات والسياسة. «يجب أن يتوقفوا!» قالها الرجل المسنّ بحنق وغادر ساحة شارل دو غول.
منذ أسبوعين، كان الباريسيون يتكلمون عن أمر مشترك يقلقهم: الطقس. «الشمس تأخرت كثيراً هذا العام!» يقولون بتجهم. ومن وحي هذا الهمّ العام، ابتكر الفرنسيون نكتة تقول: «لماذا طال فصل الشتاء هذا العام؟؟ الجواب: لأن قطر اشترت الربيع!». نكتة الفرنسيين تلك مبنية أيضاً على حقيقة وواقع، إذ انتشر أخيراً خبر شراء قطر محلات Printemps (أي الربيع) الفرنسية الشهيرة بعد منافسة حادّة مع جهات محلية ودولية.