في خريف عام 2011، كان النقاش داخل غرفة تحرير مجلة «تايم» الأميركية يدور حول اختيار رجب طيب أردوغان ليكون «شخصية العام». لائحة «مزايا» رئيس الوزراء التركي طويلة في أرشيف «تايم»، وشكل وجهه العابس مناسب جداً لصورة بورتريه كبيرة، وهو جمع نسبة تصويت إلكترونية عالية جداً خوّلته التقدم على ليونيل ميسي! لم يفز أردوغان بالغلاف السنوي الشهير ذلك العام، لكنه احتلّ أغلفة المجلة الأميركية أكثر من مرّة. فإعجاب «تايم» بالرئيس الذي «قد تثير شعبيته غيرة نجوم الروك العالميين» كما وصفته، دفعها إلى مواكبة أحداث العالم العربي على وقع تصريحاته وقراءة مشهد المنطقة ومستقبلها وفق قراراته. Erdogan›s Way، هكذا عنونت «تايم» أحد أغلفتها الخاصة بتطورات الثورات العربية عام 2011 مع صورة لأردوغان وكلام يقول: «القائد المقرّب من الفكر الإسلامي الذي جعل من بلده العلماني الديموقراطي المقرّب من الغرب مركز قوة في المنطقة».
الانبهار بشخص أردوغان ليس حكراً على الـ«تايم». فالتغزّل به وبتجربته السياسية و«اعتداله» و«انفتاحه» وبـ«ديموقراطية حكمه» و«نجاح خططه الاقتصادية» تنقّل بين الإعلام الأميركي والبريطاني والفرنسي. الصحافة الغربية رددت عناوين الخطاب السياسي الذي روّج لـ«الإسلام المعتدل» منذ عام 2002. ازدهار تركيا الاقتصادي السريع غطّى على تفصيل «الجذور الإسلامية» للحزب الحاكم وعلى تديّن رئيسه في إعلام غربي مصاب بالإسلاموفوبيا منذ الـ 2001. أعجب الصحافيون بـ«التجربة التركية» الاقتصادية الناجحة وسط تهاوي الأنظمة الاقتصادية العالمية، فكسب أردوغان وحزبه القلوب والعقول. وعندما حلّ «الربيع العربي» كرّس الإعلام الغربي ما بات يعرف بـ«النموذج التركي» للحكم الذي يجب أن تتبناه الدول الثائرة: أي نظام إسلامي الجذور ليبيرالي الاقتصاد منفتح على الغرب ولا يقلق راحة إسرائيل. كان بإمكان أي متابع للإعلام الغربي أن يلاحظ النبرة الاحتفالية التي غطّت بها وسائل الإعلام الدولية خبر عودة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب بداية العام الجاري.
«صدّقوني، لقد فازت ساراييفو اليوم بقدر ما فازت إسطنبول، وفازت بيروت بقدر ما فازت إزمير، ودمشق بقدر ما فازت أنقرة، ورام الله ونابلس والقدس بقدر ما فازت دياربكر»، قال أردوغان في خطاب انتصاره الثالث عام 2011. صفّق العرب للقائد المحنّك ورفع المحللون الغربيون قبّعاتهم لـ«رجل الشعب في تركيا». هذا دليل آخر على «نضج السياسة الخارجية التركية» رأى البعض حينها، فيما امتدح آخرون «تطور العدالة والتنمية الذي بات نموذجاً لتلاقي التقاليد الديموقراطية والدستورية مع الإسلام المعتدل في بلد واحد».
وعندما تبدّل موقف أردوغان من النظام السوري في بداية الأزمة بات «القائد الحكيم الذي سيسقط نظام بشار الأسد».
الهالة التي أحاط بها الإعلام الغربي رئيس الوزراء التركي كبرت لدرجة بات فيها خبر زجّ الجنرالات في السجون، وحبس الصحافيين، والتضييق على الحريات الإعلامية والشخصية يمرّ مرور الكرام في الصحافة السائدة. أردوغان ليس ديكتاتوراً وفق معايير الإعلام الغربي.
… حتى جاءت تحركات تقسيم الأخيرة. سارعت معظم الصحف الفرنسية والبريطانية الى إعلانها «ربيعاً تركياً» وخصصت صحيفة «ليبيراسيون» مثلاً غلافاً «يذكّر بالثورات العربية 2011». فجأة، باتت المقالات تتحدث عن «احتقان تركي عمره عشر سنوات» وعن «ممارسات خانقة طبقها الحزب الحاكم وأردوغان على مؤسسات الدولة وعلى حياة المواطنين». فجأة، طفا الحديث عن «محاولة أردوغان أسلمة الدولة والمجتمع التركي» وعن «مخاوف لدى الأتراك من التورط في الأزمة السورية» إلى السطح في بعض المقالات. «موسيو أردوغان أو سَكرة السلطة» قالت «لو موند» في افتتاحيتها غداة تظاهرات إسطنبول وإزمير، وشرحت «الأسباب المتراكمة طوال عشر سنوات من الحكم الأحادي» التي فجّرت تحرّك الأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار احتجاجاً على «الميول الاستبدادية لرئيس الحكومة وأسلوبه الفظ ومشاريعه المدنية التي توحي بجنون العظمة». أما افتتاحية «نيويورك تايمز»، فلم تتماهَ مع المتظاهرين، رغم اعترافها بـ«غطرسة» أردوغان و«ممارساته القمعية بحق الإعلام» و«محاولته تطويع الدستور خدمة لطموحاته الرئاسية». لذا، دعت رئيس الحكومة إلى التزام حرية التعبير وتلبية حاجات شعبه ومطالبهم، كي لا يلحق أي ضرر به وبالسياحة وبعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.