إسمها «وكالة الأمن القومي» (National Security Agency NSA)، يطلق عليها الأميركيون لقب «الوكالة غير الموجودة» أو No Such Agency نظراً لكونها احد أكثر الأجهزة سريّة في الولايات المتحدة الأميركية. لكن قلعة العمل السري (ومركزها ولاية ماريلاند) اختُرقت أمس بتسريبات وضعت الوكالة والرئيس الأميركي في موقف محرج واستدعت ردوداً من كافة الأطراف التي ذكرت في تلك التسريبات. الحدث بدأ عندما نشرت صحيفتا «ذي واشنطن بوست» الأميركية و «ذي غارديان» البريطانية أول من أمس وثائق سرية سرّبها «أحد العاملين السابقين في وكالة الأمن القومي». تلك الوثائق هي على شكل ملف مدموغ بلوغو الوكالة الرسمي، وهو يكشف عن برنامج يدعى «بريسم» PRISM. البرنامج السري ذاك، حسب ما نقلت الصحيفتان، معتمد منذ العام 2007 ويتيح لـ«وكالة الأمن القومي» الدخول الى خوادم Servers تسع شركات من خلال بوابة، ثم تصفّح معلومات حول المستخدمين لديها حسب عناصر تدعو الى الاعتقاد بأنهم في الخارج، وبالتالي فإن العملية ليست بحاجة لتصريح قضائي قبل التجسس عليهم.
إذاً خوّل «بريسم» الوكالة الاستخبارية الأميركية اختراق الرسائل الالكترونية، والأحاديث الالكترونية أو Chat، والمكالمات الصوتية وغيرها من الوثائق لأشخاص في الخارج وفي الداخل الاميركي. كيف؟ كشفت الوثائق المسرّبة أن NSA كانت قادرة على الدخول مباشرة الى الخوادم الخاصة لكل من مزوّدي الخدمات الأميركية: مايكروسوفت، ياهو، غوغل، آبل، فايسبوك، يوتيوب، سكايب، آي أو إل، وبالتوك. وبالإضافة الى التواصل الالكتروني والملفات المحفوظة داخل خوادم أجهزة الكومبيوتر، كشفت التسريبات أيضاً أن الوكالة الاستخباراتية كانت تتجسس على الاتصالات الهاتفية لعشرات ملايين الأميركيين من حاملي خطوط شركة «فيريزون» Verizon للاتصالات.
الصحيفتان دققتا بالوثائق المسربة قبل نشرها كما أعلنتا في مقالاتهما. ما أحدث ضجّة كبيرة في الولايات المتحدة واستدعى ردوداً من كافة الشركات المذكورة في الوثائق المسربة، والتي نفت علمها بالبرنامج المدعو «بريسم». المتحدث باسم شركة «آبل» ستيف داولينغ قال أمس «لم نسمع ببرنامج بريسم من قبل ابدا ولا نسمح بدخول أي وكالة حكومية الى خوادمنا». مسؤول الأمن لدى «فايسبوك» جو ساليفان سارع أيضاً الى التوضيح «أن فايبسوك لم يسمح لاي هيئة حكومية بالدخول الى شبكته». كما شدد كل من «غوغل» و «مايكروسوفت» على أنهما «لا يكشفان أي معلومات الا بموجب أمر قضائي».
من جهته، أعلن راندي ميلتش نائب الرئيس التنفيذي لشركة «فيريزون» في رسالة الى موظفي الشركة أنه «غير مسموح له قانونا بالتعليق على المسألة لكن أي أمر يصدر عن القضاء يلزم الشركة بالتنفيذ».
معركة «التجسس على المواطنين الأميركيين» التي تصاعدت في عهد جورج والكر بوش، عادت لتظهر في عهد باراك أوباما خصوصاً أن الأخير لم يقلّص أياً من صلاحيات أجهزة الاستخبارات للتجسس على «مشاريع الإرهابيين» و «الأجانب الملاحقين» ولكن أيضاً «المواطنين الأميركيين». وقد واجه الرئيس الحالي حملات دعته الى التخلّي عن برامج التجسس على المواطنين الأميركيين لما في ذلك من خرق للدستور الاميركي ولحريات المواطنين «المقدسة».
لذا، وبعد الكشف عن فضيحة الوكالة، سارع البيت الابيض الى نفي أي «تنصّت على الاميركيين» لكنه شدد على «ضرورة استخدام كل السبل الممكنة من أجل حماية الاراضي الاميركية».
لكن مدير الاستخبارات القومية جيمس كلابر انتقد بشدّة تسريب المعلومات حول البرامج السرية الخاصة بـ «وكالة الامن القومي» وحذّر من أن كشف معلومات حول برنامج آخر للتنصت على المخابرات الهاتفية في الداخل الأميركي «يمكن أن يهدّد الامن القومي للولايات المتحدة». وأضاف مدير الاستخبارات أن «تقرير صحيفة ذي غارديان الذي استند الى وثيقة سرّية أصدرتها محكمة لتلزم شركة «فيريزون» للاتصالات بفتح قاعدة بياناتها يعتبر مضللا». وشرح كلابر أنه «أمر بكشف بعض المعلومات حول البرنامج حتى يفهم المواطنون الاميركيون حدود استخدامه».
لكن موظف الاستخبارات السابق الذي سرّب الملف للصحافة قال إن «الامر يتطلب إجراءات مكلفة جداً يجب أن توافق عليها المحكمة لضمان فلترة عملية التجسس وتحييد المواطنين الاميركيين عنها وتركيزها على الأجانب المقيمين خارج الولايات المتحدة فقط». وتابع الموظف السابق أن الكونغرس أعاد السماح بالعمل ببرنامج «بريسم» بموجب البند 702 من قانون التجسس في الخارج «بعد جلسات ونقاشات مكثفة».
لكن، حتى بعد الكشف عن الفضيحة التجسسية، وقف البعض للدفاع عن البرنامج مشيرين الى «أهميته للحفاظ على أمن البلاد». الرئيس الجمهوري للجنة مجلس النواب الدائمة مايك رودجرز رأى مثلاً أن البرنامج أتاح «تفادي شنّ هجوم على الاراضي الاميركية». ويوضح آخرون من مؤيدي البرنامج أن البيانات التي تجمعها «وكالة الأمن القومي» من مكالمات هاتفية داخل الولايات المتحدة وخارجها «يمكن حصرها» بحيث تكشف نمطا في الاتصالات ينبه وكالات الاستخبارات الاميركية من أي هجوم يتم التخطيط له.
ودافع مسؤولون اميركيون بارزون عن البرنامج وأشاروا الى أنه قانوني ويخضع لعدة عمليات تدقيق على مستويات مختلفة داخل الحكومة. ويوضح هؤلاء أن البرنامج لا «يتنصت» على مضمون الاتصالات أو يطّلع على أسماء الذين يجرون الاتصال، بل يجمع أرقام هواتف ومدة الاتصالات الشخصية وغيرها من البيانات.
برنامج التجسس على داتا المعلومات الخاصة بالأفراد، أطلق ضمن قوانين «الحرب على الإرهاب» في عهد جورج والكر بوش بعد هجمات 11 أيلول 2001، وأمل الكثيرون أن يعمل الرئيس أوباما على إلغائها أو حصر استخدامها وضبطه لكي لا يشمل التجسس على الأميركيين.
فهل ستؤدي الفضيحة الى تغييرات جذرية في سياسة أوباما في هذا المجال؟ الى أي مدى ستذهب منظمات الدفاع عن الحريات الشخصية الاميركية في استنكار تلك الاجراءات؟ الإجابات مفتوحة خصوصاً أن للقضية مدافعين عنها داخل الإدارة الاميركية وداخل الكونغرس.