إسطنبول | عادت آزنور من موعدها الصباحي مع طبيب الأسنان خائبة وقلقة، فعيادته مقفلة وهي ليست واثقة من أن ذلك بسبب الإضراب الذي أعلنته اثنتان من أكبر نقابات البلاد هنا في تركيا، التي ينتسب إليهما ما يقارب ٧٠٠ ألف شخص، إضافة إلى نقابة الأطباء والمهندسين وأطباء الأسنان.
تقف الفتاة العشرينية كالحائرة بوجه لا يزال متورماً من الغازات المسيلة للدموع أمس، ثم تتمتم قائلة: «قد يكون موقوفاً منذ ليل أمس لأنه كان يتظاهر معنا». هكذا تقول بلغتها الإنكليزية المتعثرة، التي تُعَدّ برغم ذلك «إنجازاً» لشعب لا يتقن أي لغة أجنبية بغالبيته الساحقة، ما جعل من أمر التغطية الميدانية مهمة في منتهى الصعوبة لمن يريد فهم التفاصيل التي لا تأتي على ذكرها وكالات الأنباء، لا بل أدى إلى أخطاء في تغطية حتى الوكالات الكبرى. والإضراب الذي أعلنته اثنتان من أكبر النقابات هنا، وتضمان نحو 700 ألف منتسب، كان احتجاجاً على قمع الشرطة الشرس للمحتجين، الذي أدى إلى مقتل أربعة وإصابة آلاف المحتجين منذ بداية التحركات واعتقال أكثر من 600 محتج أمس فقط في مختلف الاحتجاجات على الأراضي التركية حسب مصدر في نقابة المحامين رفض الكشف عن اسمه، إضافة إلى رفض سياسات رجب طيب أردوغان التي بدأت تتدخل بنحو خطر بالحريات الفردية، حسب ما قال لنا كثير من الشبان والصبايا الذين التقيناهم على مدى يومين قبل إخلاء الحديقة بالقوة المفرطة. يقول سيرتاش، وهو ثلاثيني يعمل معالجاً فيزيائياً: «هل يظن أردوغان أن تركيا هي غزة؟ لقد منعت بلدية أنقرة أن يمسك الشاب بيد الفتاة في الأماكن العامة والمواصلات العامة! من يظن نفسه؟ لم يبق إلا أن يدخل معي إلى الحمام! ولم يمنع بيع الكحول بعد العاشرة مساء؟ لست أفهم». وأضاف: «نحن ندافع عن أسلوب حياتنا». ويوم أمس كان يوماً «مهولاً»؛ فالقمع الذي مورس على المحتجين العزل والمصرين على سلمية تحركهم بذكاء كبير، لم يكن مبرراً. نوع من قمع لم نرَ مثيلاً لشراسته في دولة لا تعيش حرباً أو وضعاً استثنائياً، إلا ربما في مصر مبارك وفي سوريا. قمع، إلى عدم وجود مبرر له في ظل سلمية التحركات، كان لا ينم إلا عن خوف ربما من عدوى «ربيع عربي» يعلم أردوغان على ما يبدو جيداً ماهية «زهوره». هكذا مارست الحكومة قمعاً تقنياً (توقيف كل وسائل الاتصال وقطع الإنترنت والمواصلات، بما فيها المترو والتاكسي والباص والترامواي، إضافة إلى قطع التيار الكهربائي عن ميدان تقسيم لمنع توافد المحتجين ولعدم تمكين الصحافة من نقل الصورة)، وقمع جسدي وصل إلى حدّ استخدام نوع جديد من الغاز لم يعد يمكن تسميته مسيلاً للدموع بقدر ما هو يعمي العيون حرفياً، حيث أكدت لنا مصادر طبية متضامنة مع المحتجين خبر فقدان 17 شخصاً لبصرهم بسببه. لكن إن كان القمع الجسدي قد فعل فعله، فإن القمع التقني شلّ العاصمة السياحية التركية وعلق بسببه آلاف السياح الذين كنت تراهم كالتائهين في الشوارع لا يعلمون كيف سيصلون إلى فنادقهم، ولا يجدون أحداً يتقن أي لغة أجنبية للتفاهم معه. تقف السائحة اليابانية أمام موظف محطة الباصات المتوقفة عن العمل في «فيندكلي استاسيوني» على شاطئ البوسفور. «آي هاف أ كواستشن»، أي لدي سؤال، تقول. ينظر إليها ثم يقول: «يوك يوك»، أي لا أفهم. تحاول استخدام كلمات مفهومة عالمياً «باص؟ ترامواي؟ سلطان أحمد» (منطقة سياحية)، فيردّ عليها: «باص يوك، مترو يوك، سلطان أحمد يوك»، ثم يشير بإصبعيه مقلداً حركة المشي، ثم يرفع كتفيه كمن يقول لا حول لي ولا قوة. تقف الفتاة حائرة ثم تقرر اتباع نصيحته التي لا مناص منها. أنا أيضاً علقت هناك بعد أن شهدت قمع إحدى التظاهرات بالقرب من تقسيم (شارع سترا سيلفيلار) بالغاز المسيل للدموع والمياه والهراوات. هربت نزولاً صوب الشاطئ من الرائحة الفظيعة مع بعض المحتجين، لأجد ازدحاماً غير طبيعي على كورنيش البوسفور أسفل تقسيم، في مدينة مشهورة أصلاً بازدحام السير، برغم كونها مجهزة بأفضل وسائل النقل، بما فيها النقل البحري. أرتال من السيارات المتوقفة بطول الشارع المحاذي للشاطئ. علمت بعد ذلك أن ذلك الازدحام الأسطوري كان بسبب خروج أنصار أردوغان الذين جاؤوا من المناطق لتلبية دعوته إلى التجمع في منطقة «زيتين بورنو» حيث خطب فيهم، لإثبات أنه الأقوى في الشارع التركي الذي انتخبه بالفعل ديموقراطياً. «أغلبهم ترك قبل أن يصل أردوغان إلى منتصف خطابه»، يقول خمسيني كان يقف أمام حانته وهو يقرقع بملعقة على كأس من الزجاج. أنظر إلى التلفزيون التركي الذي كان ينقل خطاب أردوغان فألمح علم المعارضة السورية! الربيع العربي يضرب من جديد. يضحك الصديق الفلسطيني وهو يقول: «هدول شبيحة أردوغان... كانوا شي 3 آلاف». أثناء وقوفي الطويل هناك شاهدت باصات كبيرة مليئة بالنساء المحجبات، ذاك الحجاب التركي الذي يبدو وكأنه من طبقتين، وأعداداً كبيرة من التاكسيات الممتلئة التي تعرفها من لونها الأصفر. لكن الجميع كانوا متوقفين في الزحمة غير قادرين حتى على الحراك. تسأل التاكسي بعد الأخرى: «عثمان بيه؟» لكنه ما إن يسمع باسم المكان حتى يعبس عبسة إضافية ويقول بغضب تقريباً: «كابالي كابالي»، أي «لا إنه مقفل». يقصد أقفلته الشرطة التي استقدمت من أطراف تركيا مزيداً من التعزيزات كانت ظاهرة في العدد الضخم الذي كان يرسل لقمع التظاهرات حتى الصغيرة منها. بعد نحو ساعة تقريباً، وكان خطاب أردوغان قد انتهى، فتح السير فجأة. وخلال دقائق خلا الشارع تماماً، كما لو أن أحداً قطعه في مكان بعيد عن الأنظار، فيما كانت طائرات هليكوبتر تابعة للشرطة تحلق فوقنا. تتناهى إليّ أصوات تهتف من بعيد، ولا تلبث تظاهرة طيارة من بضع مئات أن تصل. واضح أنها انطلقت احتجاجاً على ما جاء في خطاب «التيّب» الذي كان المتظاهرون ينادونه كذلك بدل «طيّب»، بما يفيد التحقير حسب اللفظ التركي، على غرار ما فعل هو، حيث إنه كان يلفظ اسم الرئيس السوري بشار الأسد بفتح السين حين كان إلى جانبه، وحين انقلب عليه كان يكسر السين، بما يفيد التحقير أيضاً، ودائماً على ذمة نور غول صديقتي التركية. أغلب المتظاهرين من الجيل الجديد ومن الطبقة المتوسطة وما فوق، لا بل هناك من يؤكد أن ثمانين بالمئة من المحتجين ينزلون إلى الشارع للمرة الأولى. الجميع تقريباً وضعوا أقنعة للحماية من الغاز ولبسوا أنواعاً من النظارات (غاغلز) التي تحمي العيون خلال رياضة الغطس. ينظرون إلى الطائرات المحلقة ويرفعون قبضاتهم مهددة باتجاهها، فيما كانت البواخر المارة في البوسفور تطلق صفاراتها تضامناً معهم، والناس يقرعون من الشرفات بالطناجر أو يصفقون تحية لهم. تخبرني نور غول، وهي صديقة تتكلم بعض العربية، أن المتظاهرين يسخرون من خطاب أردوغان الذي وصفهم بالـ«زعران» (شابالينغ بالتركية) وقد ألفوا أغنية تضحك من خطابه، غناها مغنٍّ تركي شهير. وتقول الأغنية: «أنا أتزعرن. أقوم من النوم وأتزعرن»... إلخ. يقول شينول، وهو أربعيني يشارك في التظاهرات: «لا ألوم الفقراء لمساندتهم أردوغان. إنهم لا يعرفون حقوقهم. يظنون أن المساعدات التي يعطيها حزب العدالة والتنمية هي شيء جيد. لا يفهمون أن سياساته الاقتصادية تفقرهم. يضحك عليهم بمشاعر الدين. إنه يبيع الأملاك العامة، ويوسّع دائرة المستفيدين من رجال الأعمال والأثرياء الجدد. سيفهمون يوماً. ونحن أيضاً انتخبناه ظناً منّا أنه سيخلصنا من العسكر. لكنه أسوأ منهم». الساعة تقارب الثامنة مساءً. يبدو الجو منذراً بالمطر. أحاول الاتصال بالأصدقاء، لكن الخطوط مقطوعة، ولا يفيد ذكاء الهواتف الذكية؛ لأن الإنترنت أيضاً مقطوعة. تكاد إسطنبول تختنق، لولا البوسفور، برائحة الحرائق والغازات السوبر سامة التي سممت هواء العاصمة السياحية التركية. إلغاء لحجوزات الفنادق، إلغاء للرحلات. العاملون في القطاع السياحي يضربون على رؤوسهم. المواجهات امتدت يومي السبت والأحد من تقسيم إلى المناطق المجاورة، وشهدت معارك كرّ وفرّ في الشارع (الحربية بالقرب من مترو عثمان بيه) مهدت لمواجهات الأحد الكبرى بعيد الرابعة من بعد الظهر (لكون المحتجين انتظروا الطلاب للانتهاء من امتحان لم تلغه الحكومة قصداً) ولانفضاض التظاهرة الموالية لأردوغان. لا يتأخر المطر عن الهطول بغزارة تذكر بأمطار الهند الموسمية. ثم يتوقف فجأة بعد أن طافت الدنيا. غسل المطر الهواء السام الذي كانت إسطنبول تختنق به. أجبرت الأمطار التي سببت بعض السيول الشرطة على الأختباء، واستفاد المحتجون أيضاً للهرب إلى بيوتهم، بانتظار الغد وجولة أخرى أعلنوا أنها لن تكون الأخيرة، ولو أنهم لا يملكون كما فهمنا خطة للتحرك.




صورة استفزازيّة كانت الصور التي عرضها التلفزيون التركي الحكومي مستفزة لمناصري الاحتجاج من الأتراك. فقد نقل أمس صوراً لعمال بلدية إسطنبول وهم يعيدون تشجير الحديقة وزرع الزهور فيها «وبراءة الأطفال في عيونهم»، كما تقول الأغنية. في حين أننا كنا شهوداً على إحاطة كل مداخل تقسيم بقوات كبيرة جداً من الشرطة التي تمنع الوصول إليها. الجهة نفسها، البلدة ووالي إسطنبول الذي يعينه رئيس الحكومة، كشفت ظهر المتظاهرين السلميين بطلبها إليهم الانسحاب من حديقة غازي في تقسيم، رغم سلمية تحركهم. علماً أن تحركهم كان مبهجاً يعجّ برقص الدبكة والأهازيج التي إن لم نفهم منها إلا ما تيسرت ترجمته، فإنها كانت تنضح بفرح الاجتماع على شأن عام. واضح أن أردوغان يريد ربح معركة الداخل أمام جمهوره، ومطالب المحتجين كانت الآتية: الإبقاء على حديقة غازي الأثرية، وإيقاف هدم مركز أتاتورك الثقافي، وإعادة تأكيد الحق في التظاهر ووقف قمع التظاهرات بالعنف والتوقف عن استخدام الغاز المسيل للدموع، والتحقيق في العنف الذي أدّى إلى وقوع قتلى ومحاكمة المسؤولين عنه، وإطلاق سراح جميع المعتقلين خلال الأحداث الأخيرة المستمرة منذ 16 يوماً.