واهم مَن يعتقد أن أميركا لم تعد القوة الأقوى في العالم، وأن اقتصادها هو الأكبر والأكثر إبداعية، وأن أميركا هي الأقدر على الانتشار العسكري براً وبحراً وجواً، وأنها ما زالت صاحبة القدرة على نسج أكبر تحالفات دولية. في المقابل، واهمٌ أيضاً مَن يعتبر أن أميركا وعظمتها هي قَدَر يجب التعايش معه إلى الأبد، وأنها ستعكس نظريات صعود الإمبراطوريات وهبوطها. فهي، كما أوروبا، تعانيان من ضعف بنيوي تنامى خلال أعوام من الرخاء الاقتصادي وتحوّل مجتمعاتها إلى استهلاك بامتياز. غابت مبدئية التضحية العسكرية، وغدا عدد ضحايا أي اشتباك هاجساً لكل مَن هو في السلطة، قد يؤدي إلى استقالته. بالإضافة، فإن وضع المديونية العالمية، وخاصة في دول النظام الرأسمالي المنحدر، جعل تلك الدول تحسب كلفة أي مجهود عسكري؛ لأن الخزينة باتت فعلاً على شفير الهاوية، وأن هذه الدول لا تستطيع طبع عملتها إلى ما لا نهاية، لما له من تأثيرات على معدلات التضخم والبطالة وفقدان الثقة. ولا يمكنها أيضاً رفع الفوائد؛ لأن بلداً مثل أميركا سيتكلف 160 مليار دولار إضافية لكل 1% ارتفاع فائدة سنوية، لأن الدين العام فاق الـ16 تريليون دولار مقابل ناتج 15 تريليون تقريباً. مجموع حجم اقتصاد المجموعة الأوروبية هو 18 تريليون دولار، ولكن فيها دول من الصعب ضبط مديونيتها كإيطاليا 2.3 تريليون، وإسبانيا 1.8 تريليون، اليونان وحدها كادت أن تركع أوروبا بمديونية 480 مليار دولار.
كانت دول النظام الرأسمالي تلجأ إلى الحروب لتنشيط الاقتصاد وتشغيل المصانع أيام الحروب التقليدية. اليوم لم يعد من حروب اشتباك إلا بين دول العالم الثالث أو الحروب الأهلية، وباتت الصواريخ أداة الردع القائمة، وحزب الله (الذي يعتبر قوة متواضعة مقارنة بالدول الكبرى) في مواجهة إسرائيل، دليل على ذلك. وبالتالي صحيح أن سيد البيت الأبيض ما زال قادراً على إعطاء الأوامر والتوقيع لشنّ هجوم هنا أو هناك، ولكنه ـ كما زعماء الدول الحليفة له ـ غير قادر على الدخول في مواجهات مباشرة استنزافية نتيجة الأوضاع المالية القائمة (فضلاً عن ارتفاع نسبة الوعي لدى المجتمعات وتدني صدقية أصحاب القرار لدى الرأي العام، وبالتالي عدم الرغبة بالتضحية كما الحال قبل الحرب العالمية الثانية).
وأخطر ما في هذا الواقع المالي أن الحد الأقصى لمعالجته هو السيطرة على نمو الدين، وليس التخلص منه، وبالتالي يبدو، في المدى المنظور، استحالة تحسّن هذا الواقع المالي لإعطاء القيادات السياسية مرونة في التحرك الدولي لاستعادة النفوذ.
مراكز الأبحاث المرتبطة بمراكز القرار منكبّة على إجراء تقويمات لكل السيناريوات المحتملة نتيجة التغيّرات على الساحة الاقتصادية والمالية. فالولايات المتحدة غارقة في الديون كما قطاعاتها العامة والخاصة وولاياتها ومدنها التي تخلّف بعضها أخيراً عن خدمة ديونها، كذلك أوروبا التي لولا ألمانيا التي تحمل عبء إنقاذ ما أمكن (ولا تستطيع إلى وقت طويل) لكانت قد انهارت دول رئيسية فيها، أهمها اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا. شمال أوروبا كما المغرب العربي كأنه خارج السرب وغير معني. شرق أوروبا الذي خرج من ظلام الاتحاد السوفياتي دخل في فساد النظام الغربي بدل أن ينأى بنفسه ويبني نفسه تدريجاً حسب حجمه (عدا بولندا).
في المقابل، تخطى الاقتصاد الصيني لأول مرة سنة 2012 بالحجم الاقتصاد الياباني الرازح أيضاً تحت عبء أعلى نسبة دين في العالم ليتخطى 5 تريليونات دولار ويتوقع له أن يصل إلى 10 تريليونات خلال العشر سنوات المقبلة. روسيا نظفت نفسها بعد الانهيار المالي سنة 1998 وانهيار العملة وارتفاع الفوائد إلى 200%، لتكون اليوم صاحبة احتياط نقدي يفوق 600 مليار دولار، ويساوي هذا الرقم حجم دينها أيضاً. الكتلة الآسيوية، حسب توقعات الصناديق الدولية، تستمر وتيرة النمو فيها بمعدل 6 _ 7 سنوياً.
أميركا اللاتينية بقيادة البرازيل في حال استقرار وإدارة جيدة لمديونيتها بعد درس سبعينيات القرن الماضي، وهي في الغالبية حليفة (ما عدا المكسيك المرتبطة إغراقياً بالولايات المتحدة) للمحور الآسيوي.
هذه هي باختصار الأحوال المالية وما طرأ عليها. الأهم أن هذه الأحوال _ الوقائع اليوم ترسم صورة النفوذ الجيوسياسي الجديد تماشياً مع ولادة نظام عالمي جديد قائم على التبدلات في القدرات والإمكانات والثروات مقابل المديونيات والوهن الذي تسبب به. من هنا يمكن دراسة أهمية النتائج على الأرض في الحرب السورية القائمة، لأنها بامتياز ساحة الصراع الدولي، وما سينتج منها، ومنها بدأ يظهر برسم معالم النفوذ الإقليمي والدولي. الحرب في سوريا هي حرب نفط وغاز أيضاً، وهي حرب وجود ونفوذ مستقبلي من شرق آسيا إلى أوروبا. نظرة موجزة على الدول ونفوذها تعطي صورة أوضح عن المقصود:
ـ إسرائيل: هذه الدولة التي كان من المفترض أن تكون شرطي المنطقة، باتت بحاجة إلى مَن يحميها. فهي اليوم ليست عاجزة عن حرب إقليمية لكنها عكس الحروب السابقة سيكون الدمار على أرضها وشعبها في حرب مقبلة، ما قد ينهي نظرية الوطن الآمن ليهود العالم لأول مرة منذ إنشائها. وباتت تحسب ألف حساب قبل أية مغامرة، ولذلك تجر الولايات المتحدة أمامها في صراعاتها، بينما الاتجاه في الولايات المتحدة هو الانكفاء إلى الداخل. هذا لا يعني إطلاقاً أن أميركا ستكون يوماً ما في تخلٍّ عن ضمانها لأمن إسرائيل نتيجة التقارب البروتستانتي _ الصهيوني، ولكن بعد استكشاف التكنولوجيا الجديدة في استخراج (shole oil) لن تعود منطقة الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل بالأهمية الاستراتيجية نفسها لأميركا. مرة أخرى، لا يتوهَّمَنّ أحد أن أميركا ستخرج من المعادلات الإقليمية، بل ستكون لاعباً رئيسياً، لا وحيداً في تقرير مصير الدول. من هنا قد يستنتج البعض أن أميركا، شرطي العالم الذي ينظّم له من حركة السير إلى حركة التجارة العالمية، سيُحال على التقاعد ويُستدعى عند الاحتياط في زحمة الأمور، لم تعد صحته ولا عمره يسمحان له باستمرار دوره السابق.
ـ الأردن: بعد تخلّصه من همّ الإخوان نتيجة خسارتهم فرصتهم التاريخية من ليبيا إلى تونس إلى مصر وغزة، سيعود هذا البلد الصغير يعيش هاجس «الوطن البديل» في ضوء التغيّرات الدولية والاتفاق المستقبلي بين القطب الغربي القديم والقطب الشرقي الجديد على حل المشاكل التاريخية. اتفاق كهذا قد يكون ضمن احتمالات عدة، أيٌّ منها سيكون على حساب النظام الرأسمالي الحالي.
ـ السعودية والخليج: في ضوء الانكفاء القطري المفروض لا الطوعي، هناك إجماع على أن السعودية هي الدولة المحورية الخليجية الأولى. ولكن هذه المملكة الشاسعة المساحة، الغنية بالثروات، الكثيفة سكانياً، لا تستطيع كما أخواتها دول الخليج حماية نفسها من دون حليف دولي، ما زال حتى اليوم الولايات المتحدة. دول الخليج وكل ما تنفقه في الموازنة العسكرية غير قادرة على التأثير الجذري حتى في اليمن. وما حصل في البحرين لا يمكن التعويل عليه لكونها جزيرة صغيرة مفصولة مرتبطة بالسعودية ولا معارضة مسلحة فيها كما في اليمن.
من هنا، وبما أن سلاح المال قد يرتدّ سلباً على مستعمليه، لأن الولاء الذي يأتي بالمال يذوب سريعاً ويرتد عداءً، لا بد كأفضل سلاح لدول الخليج أن تخرج من هاجس الخوف لديها، وتعتبر أن أفضل سلاح لها، وهو من دون ثمن، هو حسن الجوار الذي يبدأ باحتضان كل مواطنيها ومواطني كل الدول العربية المقيمين فيها واعتبارهم متساوين في الحقوق والواجبات. وإذا ما سارت الأمور على هذا الخط المتوقع، فإن الساحة الداخلية السعودية ستشهد أيضاً تغيّرات إيجابية نتيجة الانفتاح والتخلي عن التمويل السابق.
ـ تركيا: سيستفيق الشعب التركي قريباً على ما فعلت به قيادته. حلم الأمبراطورية العثمانية تبخّر في أشهر كما تبخّر الحلم الإخواني بعد 80 عاماً. أمعن أردوغان شخصياً ومعه فيلسوفه احمد داوود أوغلو في تحجيم دور الجيش والتضييق على قياداته. أدى هذا إلى غياب القوة الضابطة لكل الأفكار والنشاطات الانفصالية من أكراد وعلويين وتركمان وغيرهم. وباتت تركيا اليوم في خطر التضحية بكل ما أنجزته على الصعيد التنموي والاقتصادي إذا ما تفاقمت الأوضاع الإقليمية، وخاصة عند جارتها سوريا. لقد سهّل ودرّب وموّل وموّن النظام التركي كل الحركات المعارضة، بما فيها التكفيرية، ومنها «داعش»، التي هددت تركيا أخيراً بعمليات انتحارية في إسطنبول وأنقرة وأزمير إذا ما استمرت في إغلاق حدودها. انقلب السحر على الساحر، وأصبحت تركيا المنبوذة من الاتحاد الأوروبي والمحتمية بعضويتها في الناتو تطمح إلى تضميد علاقاتها مع إيران، وخاصة بعد أن تدهورت إلى الحضيض علاقاتها مع السعودية ومصر، وغاب الحلم التركي بتصدير الغاز القطري عبرها وامتدادها إلى الجمهوريات الإسلامية لتخاطب روسيا كندّ. بكلام آخر، ضاع الحلم التركي في أن يكون دورها في سوريا كما دور إيران في العراق.
ـ إيران: ما زال من المبكر التفاؤل وكأن الصفقة الأميركية _ الإيرانية قد تمّت مباشرة أو التفافاً عبر صفقة أميركية _ روسية، فالفرقاء المتضررون لن يسمحوا بسهولة باتفاق كهذا، أولهم إسرائيل. ولكن مهما وُضع من عراقيل، فقد أخذت إيران اعترافاً من العدو قبل الصديق بأنها دولة إقليمية بامتياز لا يمكن إمرار أي تسويات إقليمية من دون الوقوف عند مصالحها. من هنا تكمن أهمية الانفتاح ثم التقارب الإيراني _ السعودي لما لإجراء كهذا من تفاعلات ونتائج إيجابية على صعيد المنطقة كلها.
الملف النووي الإيراني سيبقى في حالة شد وربط وكباش إلى أن يتم الاتفاق من خلال الطرف الروسي على عدم التعرّض لإسرائيل ومحاولة حل النزاعات من خلال التفاوض عبر التقاسم لمناطق النفوذ لا تُخرج سوريا ولبنان والعراق من مواقعهم الحالية، ويتم بضغط أميركي على دول الخليج بوقف دعم المسلحين مقابل ضبط إيران لنشاطات حركات المقاومة. المستقبل حافل بالتفاصيل السيئة والجيدة وستكون هناك عوائق وتسهيلات، ولكن ما رسمته الوقائع الحالية لموقع إيران العسكري والجيوسياسي لا يمكن عكسه.
لكن إذا ما نجحت أطراف ما في عرقلة تسوية محتملة أميركية _ إيرانية، فعلى الأرجح أن تنتقل علاقات الدولتين من عداء مستفحل يصل أحياناً إلى تهديد عسكري، إلى البحث عن سبل سلمية لضبط الاختلاف وإدارته. وهمُ الضربة العسكرية بات وراء الجميع بمن فيهم إسرائيل، إلا إذا ثبتت النظرية الانتحارية التاريخية.
ـ مصر: تدريجياً ستعود مصر إلى دورها بعد كل ما تعرضت له من مؤامرات، وتعود إلى أخذ موقعها السياسي في إحياء النبض القومي العربي، ولكنها لن تستطيع أن تعكس المتغيّرات التي طرأت أثناء غيابها وستكون أهم تحدياتها إعادة بناء العلاقات مع العديد من الأطراف، أهمها إقليمياً السعودية وإيران، ودولياً الولايات المتحدة وتركيا وأوروبا التي ساءت العلاقات معها. ولن تنجح محاولات إعادة إحياء المؤسسات العربية المشتركة في القاهرة، بما فيها الجامعة العربية (إلا تجميلياً).
في الخلاصة، لم تعد التهديدات العسكرية تفيد في ضوء تردي الأوضاع المالية والاقتصادية في العالم القديم الذي لا يدعي أحد أنه انتهى أو هرم إلى حد الشلل، وإنما إن أحادية القيادة العالمية قد انتهت وإن هناك قوى اقتصادية قوية تتمتع باستقرار سياسي معقول ستأخذ حصة ما في خريطة النفوذ العالمية. النسب المئوية في الخريطة الجديدة ستكون رهن التطورات المستقبلية الديناميكية باستمرار في هذا العالم المتغيّر. لكن نظرية الحق والباطل لن تتغير وستبقى قائمة على أساس القوة والحضور لا على أساس الفضيلة والمبدأ. لذلك سيفرض المحور الشرقي مع كل تحالفاته الدولية حضوره العسكري والسياسي انعكاساً لقدراته المالية ونمو اقتصاداته في مواجهة نمط انحداري في الضفة الأخرى.