واترلو | رئيس الأركان الأميركي يقطع جولته الأوروبية ويعود إلى بلاده؛ لأنّ توقف نشاط حكومته يحظر على الموظفين العامين السفر؛ المدافن العسكرية الأميركية في العالم مغلقة؛ المتنزهات العامة ومرافق الترفيه الرسمية مقفلة؛ البيت الأبيض يعمل بربع موظفيه فقط. هي بعض المشاهد اللافتة الناتجة من تعطّل القطاع العام الأميركي وخفض نشاط الحكومة إلى الحد الادنى عبر دفع مئات الآلاف من الموظفين الرسميين إلى إجازات غير مدفوعة. هذا الوضع ناجم عن رفض الجمهوريين إقرار موازنة تضمّ مشروعاً حيوياً للرعاية الصحية. سلوكٌ وصفه الرئيس باراك أوباما بأنه «حملة إيديولوجية» على إدارته الديموقراطية. في اليوم الثاني من شبه الشلل الذي تشهده حكومة أكثر البلدان نفوذاً في العالم، أعرب أوباما عن استعداده للتفاوض مع قادة الكونغرس – أي مجلسي الشيوخ والنواب – للتوصل إلى حل يقضي بإمرار الموازنة وإعادة الحياة إلى الإدارات العامّة.
حضر هذا الاجتماع (الذي تعذّر نشر نتائجه لكونه عقد في وقت متأخر)، رئيس الغالبية الجمهورية في مجلس النواب، جون باينر، الذي بدا في الآونة الأخيرة يعيش في صراع بين ما يُمليه المنطق والأصوات المعتدلة في الحزب الجمهوري وبين ما يفرضه يمين محافظ، غير أنّه آثر الخيار الثاني.
النقاش هو في كيفية إدراج بعض التعديلات الجزئية على مشروع الرعاية الصحية (على الأرجح مرتبطة بالضرائب) في إطار سلّة تفاهمات تشمل أيضاً رفع السقف المتاح للحكومة الفدرالية للاستدانة. إذ بحلول 17 تشرين الأول الجاري يصل حجم الدين العام إلى 16.7 تريليون دولار، ولكي تتمكن الحكومة الوفاء بالتزامتها يجب رفع السقف وإلا تصل الولايات المتّحدة للمرة الأولى في تاريخها إلى عدم القدرة على السداد.
لا بدّ أن تصل المفاوضات إلى حلول فعلية وإلا فسيخسر الجمهوريون المزيد من رصيدهم. لكن الأهم هو أنّ هذه الأزمة تسلّط الضوء على معضلة الديموقراطية الأميركية «حيث باستطاعة أقلية في الكونغرس أن تنجح ليس فقط في عرقلة الحزب الذي تنتمي إليه بل في عرقلة الحكومة بمجملها» على حدّ تعبير الكاتب السياسي توماس فريدمان. «الرئيس أوباما لا يدافع فقط عن مشروع الرعاية الصحية، بل يدافع أيضاً عن صحّة ديموقراطيتنا، وكل أميركي يُقدّر ذلك عليه الوقوف بجانبه».
صحيفة «نيويورك تايمز» خصصت صفحتها الأولى للحديث عن «تلك المجموعة الصغيرة، إنما النافذة من الجمهوريين التي تعطّل الحكومة وتوجّه قادة الحزب، وعلى نحو متزايد تُغضب مجموعة أخرى من الزملاء الجمهوريين».
بعض فاعلي هذا التيار الجمهوري المتطرف لا يزال مقتنعاً بأنّ هناك فرصة للقضاء على مشروع الرعاية الصحية الذي وقعه أوباما عام 2010، وينتظر اليوم تخطي عقبته الديموقراطية الأخيرة. أحدهم هو النائب عن أيوا، ستيف كينغ، الذي يصف الوضع الحالي على هذا النحو: لقد تعطّلت الحكومة ولم تقم القيامة... الآن سيتصاعد الضغط على الطرفين، وسيتدخّل الشعب الاميركي لحسم الامور.
وبنتيجة تطورات اليومين الماضيين، عدّل باراك أوباما برنامج جولة تبدأ السبت المقبل إلى آسيا؛ ألغى بعض المحطات فيما بقيت أخرى معلّقة. الهدف هو التركيز على المفاوضات المكثفة في واشنطن لحلّ أزمة لم تشهدها البلاد منذ 17 عاماً. حاول الجمهوريون تفتيت المشكلة عبر تقديم مشاريع مجتزأة لتمويل بعض القطاعات الثانوية، غير أنّهم جوبهوا بمواجهة ديموقراطية تُشدّد على شمولية الحل وعلى التمسّك بمشروع الرعاية الصحية.
وإذا كانت مفاصل أميركا الرسمية في حالة شلل، لم ينعكس شلل حكومتها على نحو يُذكر على الأسواق لعالمية، ربما لأنها أضحت معتادة الأخذ والردّ المسجّل اميركياً منذ عامين. انخفضت مؤشرات الأسهم في أوروبا على نحو طفيف – باستثناء البورصة الإيطالية التي دعمها حصول حكومة إنريكو نييتا على الثقة. اما في سوق السلع، فقد سُجّل أداء متفاوت لسعر النفط حيث ارتفع السعر في لندن دولاراً واحداً تقريباً. أما سعر الذهب فقد ارتفع بنحو 28 دولاراً إلى 1315 دولاراً للأونصة الواحدة.
أما الخبر اللافت، فكان تحذير رئيس أركان الجيش الأميركي، راي أودينيرو، من أن توقف تمويل أعمال الحكومة «يؤثّر بشدّة في العمليات اليومية». ونقلت عنه «رويترز» قوله: «كلما طال أمده (أي التعطيل) زاد الوضع سوءاً. كلّ يوم نخسر قوى بشرية، ونخسر قدرات. لا أرى أنّ من المهم حلّ» هذه القضية.
صحيح أنّ رواتب العسكريين ستستمر، إلا أن الإداريين التابعين لوزارة الدفاع وللقوات العسكرية عموماً لن يتقاضوا أجورهم إلى أن تُقَرّ الموازنة بمفعول رجعي. تُضاف هذه الخسارة اللوجستية، وربما العسكرية، إلى خسائر اقتصادية إجمالية أكبر من جراء التعطيل الحكومي، تُقدرها شركة الاستشارات الاقتصادية الدولية، IHS Global Insights، بـ1.6 مليار دولار أسبوعياً، أي ما يعادل 300 مليون دولار في اليوم.
هذه الهوة ناجمة عن عدم تقاضي أكثر من 800 ألف موظف حكومي رواتبهم بعدما دفعوا إلى إجازات غير مدفوعة إلى أن تُحلّ هذه المعضلة. تلك الرواتب هي جزء من الاقتصاد الذي يفوق حجمه 16 تريليون دولار، ويمثّل الإنفاق الاستهلاكي قرابة 75% منه.
صحيح أن هذه الخسارة التي تبلغ 12.5 مليون دولار كل ساعة تُعدّ متواضعة قياساً بحجم الاقتصاد الكلي، ولكن هناك حسابات أكثر خطورة موازية لها. الأسئلة الأساسية التي يُمكن طرحها: كيف ستنتهي محنة العمّ سام هذه؟ هل يُثبت الرئيس باراك أوباما أنه مستعد لمعركة كسر عظم؟ والأهم كيف سينعكس هذا الشلل المؤقت على المشهد السياسي مستقبلاً في الولايات المتّحدة؟
في العام المقبل سيُدلي الناخب الأميركي بصوته لمحاسبة من باعتقاده أنه مسؤول عن هذه الأزمة التي كان يُمكن تجنّبها قبل شهور لو أن تيار اليمين في الحزب الجمهوري لم يتمسك بمواقفه المتطرفة ويضغط عبر شبكات المصالح والحملات الإعلامية وعلى قادة الجمهوريين. اليوم تُفيد استطلاعات الرأي بأن الأميركيين يلقون باللوم على الجمهوريين في هذه الأزمة.
فلننتظر كيف سينتهي اجتماع أوباما بقادة الكونغرس وكيف ستتطور المفاوضات وإن كان الجمهوريون سيعجبهم شاي البيت الأبيض؟