ملف الحوار مع واشنطن قديم ــــ جديد في إيران. فُتح للمرة الأولى في عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني في أوائل التسعينيات، وأخذ مداه أيام محمد خاتمي، وبلغ حد التفاهم على تبادل الرحلات الجويّة وتعيين قنصل إيراني في أميركا أيام محمود أحمدي نجاد. وها هو اليوم يدخل أفقاً جديدة مع حسن روحاني. تاريخ من العداء المتبادل ومن فقدان الثقة أجهض كل محاولة للتقدم على طريق التوافق. حتى الأمور التفصيلية، من مثل طريقة التواصل وقناته وطبيعة الرسالة، لطالما استغلت لتحقيق مآرب هذا الطرف أو ذاك. ما حصل في نيويورك أخيراً ليس بعيداً عن هذه الأجواء.
هنا البيت الأبيض!

رسائل أميركية عديدة نقلت على مدى الأشهر الماضية عبر قنوات عديدة إلى مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي طلباً للحوار. خمسة طلبات أميركية بلقاء يجمع الرئيس باراك أوباما بروحاني قُدمت قبل مغادرة هذا الأخير إلى نيويورك. اتصال هاتفي من البيت الأبيض بغرفة الرئيس الإيراني في الفندق بعد خمس دقائق فقط من دخوله إليها. في تلك المكالمة، تكرر الطلب الأميركي الذي قوبل بالرفض. أذعن الأميركي أخيراً إلى رغبة الضيف الإيراني بعدم اللقاء، لكنه استعاض عنها بطلب مصافحة. السيناريو الذي عرض كان على الشكل الآتي: خلال العشاء الذي يقام على شرف الوفود المشاركة في الأمم المتحدة، يتقدم أوباما من الشيخ ويصافحه أمام عدسات الكاميرات. كل المطلوب دقيقة واحدة.
كان الرد بإلغاء روحاني مشاركته في العشاء كله، بحجة وجود خمر على المائدة.
دنت ساعة الرحيل. وضع الوفد الإيراني الحقائب في السيارات وانطلق نحو المطار. رنّ هاتف مندوب إيران إلى الأمم المتحدة محمد خزاعي: البيت الأبيض على الخط. عبارة من بضع كلمات: الرئيس باراك أوباما يريد أن يتمنى للرئيس روحاني رحلة سعيدة. كان الموقف محرجاً. أمسك روحاني سماعة الهاتف وكان ما كان: تبادل كلمات المجاملة، بينها عبارة لأوباما بالفارسية (خداحافظ، أي بأمان الله)، مع إعرابه عن رغبة الولايات المتحدة في حل للملف النووي. فكان تأكيد روحاني على تلك الرغبة المشتركة مع الحرص على تأكيد سلميّة النووي الإيراني الذي تحاول الولايات المتحدة تقويضه على قاعدة أن استخدامه بغرض التسلح يعدّ حرام شرعاً في الإسلام. كانت لافتة موافقة الرئيس الأميركي وإشارته إلى فتوى المرشد علي خامنئي في هذا الشأن. ردّ روحاني بما يفيد بأنه ما دامت هناك رغبة متبادلة في حل هذا الملف، فهو قد كلف ظريف وفوّضه صلاحيات كاملة لمعالجته وطلب من أوباما القيام بالأمر نفسه. فردّ الأخير بالتأكيد أنه يفوّض كيري بالأمر نفسه، ثم استطرد لناحية التعبير عن أمله بأن يكون العمل على هذا الملف مدخلاً لبحث ملفات أخرى كثيرة بينها سوريا. جاء الرد سريعاً من روحاني: لنبدأ بالنووي، فإذا نجحنا في تجسير الثقة بيننا من خلاله ننتقل إلى ملفات أخرى. وختم أوباما مكالمته بالاعتذار من روحاني على ازدحام السير في نيويورك، متمنياً له رحلة سعيدة إلى طهران.

الشفافية مقابل العقوبات

اجتماع «مجموعة 5+1» على هامش اجتماع الجمعية العامة، جديده أمران: أنه يعقد للمرة الأولى في نيويورك. وللمرة الأولى على مستوى وزراء الخارجية. خمس نقاط سعى ظريف إلى تأكيدها: الرغبة في حل الملف النووي مع تأكيد سلميته. تحديد مهلة زمنية للمفاوضات أقصاها عام. التأكيد على أن حق التخصيب داخل إيران خط أحمر غير خاضع للنقاش، أما التفاصيل فقابلة للأخذ والرد. الاستعداد لإخضاع البرنامج النووي لأنظمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. والبند الخامس مقايضة الشفافية برفع العقوبات.
كلها حملت عنواناً واحداً: دعونا ننتقل من معادلة خاسر ــ خاسر إلى رابح ـــ رابح. الفكرة أن الغرب عجز رغم كل الحصار والضغوط عن وقف البرنامج النووي الإيراني، بل على العكس، شكّل حافزاً للجمهورية الإسلامية لتطوير داخلي على جميع المستويات جعلها تنتج كل ما تحتاج إليه، وفي الوقت نفسه أضرّت العقوبات بإيران على مستوى معيشة الشعب، فكان ترحيب من دول المجموعة واتفاق على اجتماع في 15 و16 الشهر الجاري لبحث العروض المتبادلة.
كان الاتفاق السابق في ألما أتا قضى باعتماد صيغة الخطوة مقابل خطوة، بمعنى إجراء لبناء الثقة تقدمه طهران يقابله إجراء مماثل من الغرب. يبدو أن الجولة المقبلة ستحمل متغيرات.

محادثات في الزاوية

خلال اجتماعات «5 + 1»، اختلى كيري وظريف في إحدى زوايا الغرفة 40 دقيقة. بحثوا شؤون المنطقة وشجونها من سوريا إلى العراق فالبحرين وغيرها. الحديث عن النووي لم يختلف كثيراً عما جاء في اتصال أوباما ـــ روحاني، وعما أعلنه ظريف على الملأ.
الجديد برز في ملفين: في سوريا، سأل كيري عن جواب على رسالة بعث بها الأميركيون قبل أيام من زيارة روحاني لنيويورك. وقتها طالبوا طهران بإقناع الرئيس بشار الأسد بعدم الترشح للانتخابات في عام 2014، رغم اعترافهم، في الرسالة نفسها، بأن استطلاعاتهم وتقديراتهم تفيد بأن الرئيس السوري سيكتسح نتائجها في حال خاض غمارها. كان الجواب الإيراني بالرفض طبعاً. كرر ظريف الإجابة نفسها: نقبل ما يقرره الشعب السوري في انتخابات تجري تحت إشراف الأمم المتحدة.
كانت تلك الفكرة قد عرضت على الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون خلال زيارة سابقة لطهران. وقتها سأل بان عن رؤية الجمهورية الإسلامية لصيغة الحل في سوريا. كان الجواب: حوار سوري ــ سوري تنبثق عنه انتخابات تجري بإشراف الأمم المتحدة تنتج رئيساً جديداً.
استغرب الأمين العام متسائلاً عن إمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة في ظل وجود الأسد في السلطة. ردّ محدثه بسؤال مشابه: هل تقول لنا إن المجتمع الدولي عاجز عن فرض انتخابات حرة ونزيهة في سوريا بإشراف دولي. فأجاب بـ«لا». قيل له: إذن نحن متفقون على المبدأ. بان: نعم. «إذن تقدمنا خطوة إلى
الأمام».
لم يجد كيري ما يقوله. سأل ظريف عن «جنيف 2» والرؤية الإيرانية له. «نحن ندعم الحل السياسي»، قال نظيره الإيراني. طيب، ألا تريدون المشاركة فيه؟ قال ظريف إنّ الدعم للحل السياسي متوافر بغض النظر عن المشاركة. عندها جاء الطلب الأميركي المباشر: وافقوا على مقررات جنيف واحد فتشاركون في «جنيف 2». ابتسم ظريف: لا نقبل بأي شرط للمشاركة، ولا نبصم على ما لم نشارك في صناعته.
قد يكون البند الثالث المهم في المحادثات الأميركية ــ الإيرانية، بعد النووي وسوريا، كان البحرين. هناك إصرار على عدم البوح بأي شيء عمّا دار حول هذه الساحة التي يجري تداول معلومات منذ نهاية الشهر الماضي عن أن وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل حمل رسالة أميركية إلى البحرين تفيد بوجوب أن يتنحّى رئيس الوزراء خليفة بن سلمان في موعد أقصاه نهاية كانون الأول الحالي، على أن يجري تعيين ولي العهد سلمان بن حمد مكانه في رئاسة الحكومة. يبدو أن تلك القضية «بالغة
الجدية».