لم يكن النزاع، او الصراع، بين الجمهورية الاسلامية في ايران والولايات المتحدة، نابعاً فقط من خشية الاميركيين من البرنامج النووي الايراني ومن «قنابل» طهران النووية. البرنامج النووي، رغم اهميته ومستوى تأثيره على ميزان القوى في المنطقة وعلى المصالح الاميركية فيها، الا انه احد عناصر النزاع، بل وربما ايضا، أشدها تعبيرا عنه. الخصومة والعداء، كانا موجودين وبقوة قبل النووي، وربما سيبقيان بعده، حتى مع توصل الجانبين الى حل تسووي لهذا الملف، والمواجهة ستبقى وإن بأدوات ووسائل عدائية اخرى، يضمن حدودها ومداها، في المنظور القريب، ما يمكن ان يتوصل اليه الطرفان من تفاهمات، تبعاً للتسوية النووية.
الصراع كان، وربما سيبقى، على اصل وجود النظام الاسلامي في ايران، وعلى مدى ومستوى حضوره ونفوذه في المنطقة، وعلى امكان تسليم او عدم تسليم، الولايات المتحدة بما انتزعته طهران من حضور ونفوذ. كلا المطلبين، كانا مرفوضين اميركيا، وكانت المواجهة قائمة على اساسهما، ومن اجلهما. واذا كان تبدل الظروف الدولية والاقليمية وفشل الخيارات الاميركية العسكرية المتوالية في المنطقة وتبعا لذلك محدودية القدرة الفعلية على التحرك العسكري العدائي ضد ايران، اضافة الى الصمود الايراني طوال سنوات العداء الاخيرة، حفز الادارة الاميركية الحالية للاندفاع نحو التسوية مع ايران، الا انها تبقى تسوية جاءت بعد فشل كل الخيارات الاخرى، وبالتالي هي تسوية التي تعقب الفشل، أي أن تغير الظروف والامكانات الاميركية في المستقبل، قد تدفع ادارة اخرى في واشنطن، لاستئناف العمل العدائي ضد ايران، حتى مع وجود اتفاقات مبرمة بين الجانبين.
لا يعني ذلك ان اتفاقا نوويا وما يتبعه بالضرورة من تفاهمات، لن يبصر النور، الا ان التوصل الى اتفاق، لا يلغي مصلحة اميركا الاساسية في اسقاط النظام في ايران، وفي حد ادنى، منع تمدد نفوذه خارجها. لكن ما بين تحديد المصالح وإمكانية تحقيقها، فروقاً كبيرة جدا، ولا يكفي في ذلك ان توجد نية او ارادة لدى الاميركيين، كي تتحقق هذه الارادة.
ولا يوجد سلاح اكثر فاعلية في مواجهة ايران، من ملفها النووي، وكل ما دونه، هوامش. والتوصل الى اتفاق بين الجانبين، يعني ان الولايات المتحدة والغرب عموما، اضطروا للتنازل عن احد اهم سلاح في المواجهة مع ايران، واذا تحقق الاتفاق بالفعل، فسيعني ذلك ان النووي الايراني حقق اهم انجازاته: حفظ نظام الجمهورية الاسلامية، وعلى الاقل، في المدى المنظور. الا ان الخلاف اللاحق، ما بعد الاتفاق، سيبقى قائما: مستوى ومدى نفوذ ايران في المنطقة، وهو ما لا يمكن لاي اتفاق ان يضمن حجمه ومداه وحدوده.
الا ان التسليم، او التسليم القسري، بوجود نظام الجمهورية الاسلامية في ايران، على المديات المنظورة في اقل تقدير، والمبني اساسا على بقاء موازين القوى على حالها مستقبلا، يلزم الادارة الاميركية بأن تقر بحد ادنى من مصالح النظام في ايران وستكون مضطرة للتعايش معها. لكن ما هي هذه المصالح وما هي حدودها وهل تمتد الى خارج الاراضي الايرانية وفي اي مدى، تبقى اسئلة لا يمكن تحديدها مسبقا، حتى من قبل الجانبين، ما يعني ان معركة ما بعد الاتفاق النووي ستتركز على هذه المصالح، والمواجهة ستتواصل عليها، بدءا من لبنان وفلسطين مرورا بسوريا والعراق والخليج، وصولا الى دول الجوار الشرقي لايران.
مع ذلك، وتبعا للتسوية النووية وما سيليها من قواعد اشتباك جديدة بين الجانبين، ستكون المواجهة، بشكل عام، مضبوطة ومسقوفة وذات حدود، وعلى حد سواء من قبل الجانبين، الا ان القدر المتيقن ان مكانة وقوة حلفاء ايران في الساحات المذكورة ستتعزز اكثر، رغم الاقرار بأن اميركا لن تلجأ طوعا الى التسليم بنفوذ ايران وحلفائها في هذه الساحات.
ويمكن التقدير ان الولايات المتحدة ستعمل على ان تكفل مصالح حلفائها وأتباعها في المنطقة في وجه ايران وحلفائها، لكنها لن تكون مستعدة او جاهزة، اي اميركا، في هذه المرحلة على اقل تقدير، كي تقاتل قتالا لا هوادة فيه من اجل هذه المصالح، وخصوصاً مصالح الاتباع والهامشيين من الحلفاء. وفي ذلك يمكن التأكيد، مسبقا، بان الخطوط الحمراء الاميركية تجاه ايران، ستتركز على مصالحها الخاصة، وضمن محددات واهداف تشخصها هي، لا حلفاؤها، ومن ضمنها استمرار تدفق النفط ومصلحة اسرائيل، لكن حتى في الحالة الاسرائيلية فان الخطوط الحمراء الموضوعة من اميركا ستكون كما تراها واشنطن، وليس كما تراها الحكومة الاسرائيلية، وفي ذلك كلام يطول. اما بقية المصالح والاعتبارات، فستكون محل تجاذب ومواجهة بين الجانبين، والذي يدير المواجهة افضل، يكسب اكثر.
ما بعد الاتفاق الايراني مع الولايات المتحدة، وربما حتى ما قبل الاتفاق، فان قواعد الاشتباك باتت مغايرة، والمصالح اميركية باتت اضيق من ذي قبل، وتبعا لذلك فان النفوذ والحضور الايراني والقوى المتحالفة معه، باتت اكبر واكثر تأثيرا، وعلى ذلك يمكن تقدير واستشراف الآتي. اما أتباع واشنطن، وخاصة الصغار منهم، بما يشمل دولا احجامها الحقيقية اقل بكثير مما تبدو عليه، فإما ان يلجأوا الى قواهم الخاصة، على علاتها وضِعتها، او ان يتعايشوا مع اوضاع وموازين قوى جديدة، لم تكن بالمطلق محلا لآمالهم، حتى الامس القريب.