ما هي العملة التي زادت قيمتها بنسبة 6800% خلال الأشهر العشرة الماضية؟ المعدل هائل ولا يُمكن تفسيره واقعياً خلال هذه المدة القصيرة، فهو كأن نقول، تقريباً، إن سعر الدولار أمام العملة اللبنانية انهار من 1500 ليرة في كانون الثاني إلى 15 ليرة في تشرين الأول. لكن السؤال ليس فخاً في امتحان العلاقات النقدية لطلاب الاقتصاد؛ فالعملة موجودة، هي ذات طبيعة رقمية وتكتسب زخماً متزايداً في حياة اقتصادية أضحت تعشق التبادل الإلكتروني.
الازقة السرية

الغارة هذه المرة كانت مختلفة تماماً عمّا يعتاده العملاء الفدراليون. فالهدف لم يكن عصابة اتجار بالمخدرات في ولاية معينة تحضّر لإتمام عملية تبادل بمئات ملايين الدولارات. هذه المرّة أغارت الولايات المتّحدة على موقع إلكتروني هو من بين الأكثر سريّة منذ نشأة الإنترنت: طريق الحرير (Silk Road).
نُسف الموقع الذي استُخدم لتبادل سلع غير قانونية – من المخدرات إلى الأسلحة – غير أنّ العملة التي حفّزت التبادلات في أزقته خلال السنوات الماضية بقيت حاضرة.
إنها العملة الرقمية الأشهر على الإطلاق: Bitcoin. هي الأشهر؛ لأن عملات أخرى خرجت من عقول مبدعة إلكترونياً، غير أنّها لم تحصد هذا الطلب والنجاح.
اليوم يبلغ سعر صرف هذه العملة أكثر من 900 دولار. قبل عشرة أشهر فقط كانت عند 13 دولار فقط.
لا شكّ أن هذه العملة التي كانت قبل خمس سنوات حلم مبرمج – أو مجموعة من المبرمجين – تحت اسم «ساتوشي ناكاموتو»، أضحت الصرعة النقدية الأحدث في عصر «إنترنت الأشياء».
تقوم العملة على أساسيات تقنية واقتصادية تبدو قوية لدرجة عالية. حتّى ثروة مؤسس «طريق الحرير»، وهو الأميركي المعروف باسم DPR، ويُعتقد أنه روس أولبريخت (29 عاماً)، التي قيل إن العملاء الفدراليين الأميركيين صادروها، لا تزال صامدة، أو بالحدّ الأدنى 80% منها.

بروتوكول مبهر

بدأ النظام بصكّ العملة، إذا صحّ التعبير، في تعاون آلي بين المبرمجين والمركز، أي دفتر الحسابات. لكن ما الذي منحها ولا يزال قيمتها ويُقنع الناس بشرائها لتنفيذ عمليات نقدية أخرى أو بهدف تحويل الأموال؟ الجواب ليس بعيداً عن الأساسيات النقدية المعهودة: العرض والطلب.
فمع تزايد الإقبال من قبل مختلف الفئات التي تجوب الإنترنت وأسواقه، ارتفعت قيمة العملة الرقمية. ولمن يتساءل عن علاقة القيمة بالكم؛ الجواب هو أن إنتاج هذه العملة حُدّد، وفقاً لبروتوكول ابتكارها، بـ21 مليون وحدة فقط؛ وهو مستوى يُفترض أن يتحقّق بحلول عام 2140.
يبدو الرقم ضئيلاً وغير منطقي، فالعملة يُفترض أن تكون متوافرة بكميات أكبر من ذلك بكثير لكي تكون عملة كونية فعلاً وتخدم سكان الأرض برمتهم؛ فبسعر الصرف السائد اليوم، تكون قيمة كلّ المعروض من هذه العملة في مرحلة الأوج 18.9 مليار دولار، أي ما يمثّل أقل من ثلث الدين العام الرسمي في لبنان!
من ابتكر هذا النظام المعقد لم يكن محدوداً مثل العقل الذي راكم ديناً عاماً على لبنان يفوق 62 مليار دولار حالياً؛ إذ منح كل وحدة Bitcoin خاصيّة التقسيم إلى وحدات هي عبارة عن واحد على 100 مليون؛ تُسمّى تلك الوحدات «ساتوشي» تيمناً بمؤسس (ي) النظام.
هكذا لا مخاوف من انقطاع العالم من هذه العملة، مع العلم أن وقف إنتاجها يفرض قيمة أكبر لها.
لكن ما يميز العملة الرقمية فعلاً عن أي عملة مادية متداولة مثل الدولار أو اليورو أو الين، أنها ليست فقط أموالاً تُستخدم لتسديد سعر السلع والخدمات، بل أيضاً وسيلة للدفع مثل البطاقات الإلكترونية وخدمة PayPal. هكذا تسمح هذه الوسيلة لمستخدمها بحفظ الأموال وبتحويلها من مكان إلى آخر – عبر البريد الإلكتروني وبسرية عالية – من دون أي كلفة، وهي مسألة تبدأ إلى حد ما بإزعاج الهياكل التقليدية لتحويل الأموال حول العالم.
يأتي ازدهار العملة الجديدة في زمن التشكيك في مختلف جوانب الإدارة الاقتصادية في العولمة الرأسمالية؛ تشكيك ازداد زخمه منذ الأزمة المالية التي عاشها العالم منذ عام 2008 والركود الاقتصادي الحاد الذي تبعها.
فلنأخذ أحد معايير النظام النقدي العالمي لمقاربة أهمية العملة الجديدة. الذهب بكلّ بريقه ورمزيته النقدية، الاقتصادية وحتى الاجتماعية، سعره يئن دون 1250 دولاراً للأونصة الواحدة، أي أعلى من سعر وحدة العملة الرقمية بنسبة الثلث فقط. وقد نشهد قريباً انقلاب تبدّل طرفي المعادلة.
ففي الحقيقة، مع نمو الطلب على تلك «المعادن الرقمية»، يتراجع الطلب على الذهب الأصفر. خلال الفصل الثالث من العام الجاري تقلّص الطلب العالمي الإجمالي على الذهب بنسبة 21%، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، إذ بلغ 868.5 طناً.
السبب الأساسي وراء هذا التراجع هو انخفاض شهية الصناديق الاستثمارية (ETFs) في الغرب. طبعاً، لا يزال الطلب القوي من الأسواق الشرقية الآسيوية – بهدف الاستهلاك، الصناعة ولدواعٍ نقدية لدى المصارف المركزية – وهو ما يحول دون تراجع الطلب أكثر، وفقاً لما يذكره مجلس الذهب العالمي في تقريره الأخير.
يركّز على فكرة التخلّي عن الذهب في الأسواق الغبية وازدهار الطلب عليه شرقاً. وهنا الفارق تحديداً، إذ إنّ الطلب على الـ Bitcoin يُرصد في كافة أصقاع الأرض، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، مع استثناء بسيط في الولايات المتّحدة ناتج من تعقيدات خاصة بطريقة أداء الأعمال في هذا البلد.
يعود هذا الأمر إلى توجّه العالم نحو الاعتماد بنحو متزايد في الحرفية، على المجالات الرقميّة لتنفيذ البرامج المختلفة: من شراء السلع إلى التفاعل الاجتماعي مروراً بالحروب. فلنأخذ مثالاً فاقعاً عن التنفيذ الرقمي لأحد البرامج من رحم الموضوع الأكثر حماوة على المستوى العالمي: وضع إيران في المنطقة والعالم والحرب الإلكترونية التي شُنّت عليها خلال السنوات الماضية.
فخلال التحضير لتوقيع الاتفاق بين إيران والغرب، كان الإعلام يُفيد بأنّ فيروس ستاكسنت (Stuxnet) الذي ضرب البنية التحتية النووية الإيرانية، وتحديداً مفاعل ناتنز (وسط ايران) عام 2010، هو أكبر وأكثر تعقيداً من التصور الأساسي. إذ وفقاً لما نقله تحقيق موسع لمجلة «فوربز»، الهجوم الذي شنه الفيروس عبر التلاعب بسرعة المحركات الدوارة في أجهزة الطرد المركزي الخاصة بالتخصيب بهدف تعطيلها لم يكن سوى المرحلة البسيطة من هجوم أوسع بدأ قبل ذلك بثلاث سنوات عبر النسخة المعقدة من الفيروس التي تهدف إلى رفع الضغط في تلك الأجهزة عبر تخريب الجهاز الذي يحفظ سلامتها.
هكذا يُمكن فهم مستوى التعقيد الذي يسود الردهات الرقمية التي يتنقل فيها الفيروس كالقاتل المأجور الذي يبحث عن هدفه الدسم. لذا، أن يكون المال موجوداً على شكل برنامج، مثل النقود الرقمية، يُمكن أن يقضي عليه هذا القاتل أو أن يخطفه يُرعب الوعي الاجتماعي المتمحور حول العملة.

قلق من الابداع

ولكن لكلّ ابتكار رقمي جديد سيئاته وإيجابياته إلى حين الوصول إلى توازن في التعاطي معه. اليوم تسيطر البيئة الرقمية تدريجاً على حياة المجتمعات، لدرجة أن أفلام الخيال العلمي التي كانت مُبهرة في وقت ما تبدو اليوم كنزهة بسيطة أمام المقوّمات التي أضحى العالم الرقمي يكتنفها، والمطارح التي قد يوصل إليها.
اليوم تُعد العملة الجديدة مقبولة من دون تحفّظ في اليابان، والصين، وبعض البلدان الأوروبية وكندا. أما في الولايات المتّحدة، فتبقى أمامها عراقيل فدرالية كثيرة. أخيراً، عمدت السلطات المختصة إلى إقفال الحسابات الأميركية لشركة الصرافة اليابانية Mt. Gox – وهي الأكبر في العالم في تصريف العملة الرقمية – بعدما تبيّن أنها تؤمّن للمقيمين في الولايات المتحدة استبدال عملاتهم الرقمية بأموال عبر تلك الحسابات.
تُشير مجلة Wired المختصة بالشؤون الإلكترونية، في تحقيق مطول عن العملة الجديدة، إلى أنّ هذا الإجراء أثار بلبلة في السوق الأميركية، حيث أغلقت مصارف أخرى حساباتها مع دور صرافة خشية الملاحقة الفدرالية، وفي العالم أيضاً. غير أنّها تستطرد لتؤكّد أن الابتكار النقدي هو جديد في نظام يخشى التطور إن كان مخيفاً وغامضاً في البداية.
تنقل المجلة عن مديرة شبكة مكافحة الجرائم المالية في وزارة الخزانة الأميركية، جينيفر شاسكي، قولها خلال جلسة في مجلس الشيوخ: «غالباً ما يكون القلق من تبييض الأموال أو تمويل الإرهاب هو رد الفعل الأول على اللاعبين الجدد أو المنتجات الجديدة في القطاع المالي... لكن من الأهمية بمكان أيضاً أن يكون تقويمنا موضوعياً وأن نعي أهمية الابتكار في اقتصادنا».



ما هي تلك العملة الرقمية؟

لتبسيط الأمور، يُمكن القول إنّ كلّ Bitcoin هي عبارة عن عناوين إلكترونية طويلة وأرصدة مسجّلة في دفتر حسابات رقمي (The Blockchain Ledger). ابتكر المؤسسون هذا النظام لكي يُسجّل كلّ معاملة تحصل في أي مكان رقمي في العالم باستخدام هذه العملة.
فلدى ابتكار النموذج، وهو عبارة عن برنامج معقّد يقوم على مبدأ المشاع الإبداعي وُزّع على الإنترنت في عام 2008، رُبط بحواسيب تؤدي دور عمال المناجم: تُجري الحسابات، المقاصة وتحافظ على استقرار سوق هذه العملة. يُمكن أياً كان أن يؤدي دور عامل المنجم، ولكن عليه أن يتمتع بجهاز كومبيوتر بقدرات حسابية خارقة (Super Computer).