في الجزيرة الإندونيسية بالي، كادت الدموع أن تملأ المكان احتفالاً بالاتفاق الأول الذي تشهده المنظمة التي تأسست عام 1995. هي دموع المدير العام للمنظمة البرازيلي روبيرتو إيزيفيدو، الذي تولّى سدّة القيادة منذ الخريف الماضي بعد ولاية ماراتونية لباسكال لامي.
لم يستطع الفرنسي تطويع الدبلوماسية الاقتصادية لحياكة اتفاق يحوي هواجس البلدان النامية من مخاطر فتح أسواقها لسلع مدعومة تجتاحها من العالم الصناعي. هكذا شُلّت المنظمة منذ عام 2001، حين انطلقت المحادثات حول تحرير الأسواق، التي عُرفت بـ «جولة الدوحة». في إطار تلك المحادثات، أبدت البلدان الصناعية تعنّتاً واضحاً في وجه نفوذ متعاظم للبلدان النامية.
المشكلة لا تزال قائمة، فالاتفاق الذي لم يجف حبره بعد، لا يُعدّ خرقاً غير عادي، بل توافقاً متواضعاً تمهيداً لحوار أعمق بين أركان العولمة. وبحسب تعبير مدير المنظمة، ما حدث في بالي كان عبارة عن «إعادة كلمة العالمية إلى منظمة التجارة». أمّا المفوّض التجاري في الاتحاد الأوروبي، كاريل ديغوشت، فقد كان أكثر صراحة ووضوحاً: «اليوم أنقذنا منظمة التجارة العالمية».
إلى هذه الدرجة تقزّمت طموحات البنى المؤسساتية التقليدية للعولمة على الطريقة الرأسمالية. البرنامج الذي أُقرّ في نهاية الأسبوع يتضمن إجراءات تسهيلية في ثلاثة مجالات هي الزراعة عبر خفض دعم الزراعات، وتحفيز التنمية عبر استثناء سلع البلدان النامية من بعض الرسوم الجمركية، إضافة إلى تسهيل المبادلات عبر خفض الإجراءات البيروقراطية الحدودية.
تُقدّر المنظمة القيمة الإجمالية لهذه الإجراءات بتريليون دولار (ألف مليار)، وترى أنها ستؤدّي إلى خلق ملايين الوظائف، وإن بعد حين. تمثّل هذه الرزمة قرابة 10في المئة من البرنامج المطروح في إطار جولة الدوحة.
المشكلة ليست في حجم البرنامج المتفق عليه وأفق البرنامج الأكبر، بل في مستقبل منظمة التجارة برمته في ظل التحولات التي يشهدها الاقتصاد العالمي.
لا يُمكن تفسير أزمة إدارة التجارة الدولية فقط بالطموح المتزايد للبلدان الناشئة، وسعيها إلى تثبيت حقها في خيرات العولمة؛ مع العلم أن هذه البلدان ليست متكتلة وفقاً لبروتوكول مقدّس، فالاتفاق الأخير مثلاً، حظي بمباركة روسيا والصين فيما رفضته الهند كلياً.
في الحقيقة يعود التأزم إلى ويلات العولمة نفسها. فبعدما غرقت البلدان الصناعية في وحول الأزمة المالية الأخيرة والركود الذي لحقها، كان لا بدّ من حرف المسار نسبياً. عادت تلك البلدان إلى التكتلات الجغرافية لكي تحقق الازدهار التجاري في إطار اتفاقات إقليمية. الولايات المتّحدة تقود هذا التوجّه، وتسعى إلى إنجاح «الشراكة عبر الهادئ»، وهو مشروع يضم 11 بلداً من ضفتي المحيط، ويطمح من خلاله الرئيس الأميركي باراك أوباما، إلى أن يمثّل اتفاقاً تجارياً مغرياً تنضمّ إليه الصين؛ الشراكة مع الصين أفضل من مواجهتها!
وعلى الرغم من أنّ زعماء مجموعة العشرين يروّجون لإنجاز يتمثّل في عدم السقوط كلياً في فخّ الحمائية – وقد تطوّر الميل صوب الإجراءات الحمائية لدرجة أن إشارات «حرب عملات» سيطرت على الأجواء منذ عام 2008 – إلا أن الجميع تقريباً يطبّق برامج لحماية نفسه من العولمة التي يُروّج لها.
الولايات المتّحدة وأوروبا تتعاطيان مع الصين بأبعد ما يكون عن الليبرالية، عبر منع إنتاجها من ألواح الطاقة الشمسية مثلاً من الوصول إلى سوقيهما؛ في جميع الأقطار يُمكنك ملاحظة وجود إجراءات للسيطرة على حركة الرساميل: في القارة الأميركية، التدفقات الرأسمالية الإقليمية هي اليوم أدنى بنسبة 65% عما كانت عليه عام 2007، ومعدّل التراجع أكبر في أوروبا حيث يبلغ 86%.
من جهة أخرى، من المفيد التذكير بأنّ النقاش حول الفوائد السطحية المباشرة للاتفاقات في إطار مؤسسات العولمة الرأسمالية مختلف تماماً عن نقاش كيفية توزّع ثمار العولمة. يُمكن القول إنّه حتى الآن لم تكن تلك المؤسسات، وبينها منظمة التجارة العالمية، الإطار الملائم لتحقيق العدالة في العالم. ماذا جنى المهمشون والفقراء من بلوغ الرساميل المتدفقة في العالم مستواها القياسي عند 11 تريليون دولار في عام 2007 قبل أن ينحسر نشاطها وتتقلص إلى الثلث حالياً، نتيجة الأزمة التي ولدتها؟
جميع المنادين بفتح الأسواق، على مستوى السلع، والرساميل والمهارات البشرية، اتخذوا موقفاً حذراً منذ عام 2008 حين تبين بالتجربة أن توازن السوق ليس نتيجة حتمية للحرية المطلقة السائدة فيها.
واليوم، الجميع يريد مخرجاً إضافياً من المأزق النيوليبرالي على المستوى التجاري، بعدما عاد العالم خلال السنوات الخمس الماضية إلى تعاليم جون ماينارد كينز، القاضية بتحفيز السوق عبر تدخل الدولة وزيادة حصتها من الاقتصاد؛ عاد العالم قرناً كاملاً إلى الوراء مع تشبيه حملة إنقاذ الاقتصاد العالمي عبر رزم التحفيز (برامج الإنفاق التي اعتمدتها الحكومات) بأنها حملة العودة إلى كارل ماركس.
الرأسمالية تحتاج بيأس إلى متنفّس لدرجة أنّ رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون، وصف الاتفاق الموقع بأنّه تاريخي، وبأنه سيمثل خلاص المحرومين في العالم. وذلك بعدما كان روبرتو إزفيدو، قد أكّد أنّ الاتفاق الموقع في بالي بحضور ممثلين عن البلدان الـ159 الأعضاء في المنظمة، «ليس سوى بداية». قال: «أصبح أمامنا الآن 12 شهراً لوضع خارطة طريق لانجاز برنامج الدوحة».
إلى أي مدى سيذكر التاريخ منظمة التجارة العالمية؟ الجواب يعتمد على المسيرة التي ستسلكها العولمة برعاية أبرز اللاعبين فيها.



اتفاق «تاريخي» يعيد «العالمية» إلى المنظمة


أبرمت منظمة التجارة العالمية أول من أمس في بالي وبعد مفاوضات شاقة اتفاقاً «تاريخياً» هو الأول الذي يوقع منذ تأسيسها في 1995 وينقذها من العجز، لكن مقابل الحد من طموحاتها. وقال المدير العام للمنظمة البرازيلي روبرتو ازيفيدو، بعد موافقة وزراء الدول الـ 159 الاعضاء في المنظمة على النص، «للمرة الأولى في تاريخها، نفذت منظمة التجارة العالمية وعودها».
واضاف «اعدنا من جديد كلمة «عالمية» الى منظمة التجارة العالمية»، موضحاً أن اتفاق بالي «خطوة مهمة» على طريق انجاز البرنامج الواسع لتحرير المبادلات التجارية، الذي اطلق في 2001 في الدوحة لكنه لم يطبق حتى الآن.
وأعلن رئيس الاجتماع الوزاري وزير التجارة الإندونيسي، جيتا ويرجاوان، ان «بالي تمثل فجراً جديداً لمنظمة التجارة العالمية». واضاف «انه نجاح تاريخي سيمثل حافزاً حقيقياً بينما يواجه النمو والوظيفة صعوبات». وقالت وزيرة التجارة الفرنسية، في بيان، «خلال هذه المفاوضات انتصرت روح التسوية من اجل انقاذ النظام التعددي، الوحيد القادر على ضمان مشاركة كل الدول مهما كان حجمها او قوتها في وضع وتطبيق قواعد التجارة العالمية».
ورأى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ان هذا الاتفاق «التاريخي» يمكن ان يكون «خشبة خلاص للمحرومين في العالم».
(أ ف ب)