هل تذكرون عندما تعطلت الحكومة الأميركية كلياً في تشرين الأوّل المالي؟ لم يكن متاحاً الغياب عن الخبر، فأقوى حكومة في العالم عانت لأكثر من أسبوعين جفاف التمويل. السبب كان رفض محافظي الحزب الجمهوري خطط إدارة باراك أوباما للإنفاق العام ومشروعه للرعاية الصحية؛ فكان أن عرقلوا الموازنة. جرى ترتيب الأمور حينها لإيصال الأوراق الخضراء إلى الإدارات الفدرالية المختلفة، بانتظار التوصل إلى اتفاق أوّلي حول الموازنة الإجمالية، وهو ما حصل أوّل من أمس، حيث توصل السياسيون المفاوضون في واشنطن إلى أول اتفاق حول الموازنة خلال عامين.
الاتفاق متواضع تبلغ قيمته 85 مليار دولار، وهو ليس حلاً شاملاً بطبيعة الحال لمالية العم سام، بل يُعطي السياسين مجالاً لالتقاط الأنفاس، ويحول دون تعطل الحكومة الأميركية مجدداً في كانون الثاني المقبل. المجال مطلوب لمحاولة اجتراح الحلول لمشكلة الدين العام المتضخم عند 17 تريليون دولار.
يُعدّ الاتفاق الذي يُغطي العامين المقبلين مدخلاً للتخلّص من حالة الفوضى التي تسود الإنفاق العام في الولايات المتّحدة منذ عام 2010، نتيجة الحرب التي شنها مجلس النواب الجمهوري على الإدارة الديموقراطية.
لكن رغم الهدوء المالي/ السياسي الذي يعد به هذا الاتفاق، جذب نيران التطرّف الجمهوري. يلوم اليمين الأميركي قادة الحزب الجمهوري ويرى أنهم يخضعون لضغط الإدارة الديموقراطية. حجة اليمين هي أن الحكومة لا تقوم بما فيه الكفاية لكبح الدين العام، وتُفضّل الإنفاق بسخاء على البرامج الاجتماعية، عوضاً عن التقشّف وخفض حجم القطاع العام في الاقتصاد إجمالاً.
بحسب الاتفاق، سيرتفع الإنفاق العام المخصص لوزارة الدفاع (بنتاغون) وللمشاريع المحلية في موازنة العام المالي الحالي إلى أكثر بقليل من تريليون دولار، بعدما كان يُرتقب أن ينخفض إلى 967 مليار دولار إذا دخلت الاقتطاعات التلقائية في الإنفاق العام حيز التنفيذ في الشهر المقبل؛ ومن المفترض أن يبقى الإنفاق العام ثابتاً في موازنة عام 2015 أيضاً.
من المفترض أن يجري تأمين الأموال الإضافية من زيادة الرسوم المفروضة على تذاكر السفر لتغطية نفقات أمن المطارات، من خفض نفقات برنامج الرعاية الصحية بنسبة 2% ومن زيادة نسبة الاشتراك الشهري لبرنامج التقاعد وتعويض نهاية الخدمة للعمال في الإدارات الفدرالية.
لإتمام الاتفاق، تخلّى المفاوضون من الحزب الديموقراطي عن مطلب تمديد الإعانات المخصصة للعاطلين من العمل، التي ستتوقف في نهاية كانون الأول الحالي؛ مع بداية عام 2014، لن يتلقى أكثر من 1.3 مليون أميركي عاطل من العمل الإعانات الفدرالية. غير أنّ الإدارة تعوّل على مشروع آخر للاستمرار في هذا الشق من الإنفاق الاجتماعي. ومن القضايا الأخرى التي لم يشملها الاتفاق، زيادة الضرائب ومعالجة الثغر التي تعتري النظام الضريبي إجمالاً وتخول الشركات الكبرى التهرب من التكليف، وهي قضية أثيرت أخيراً من باب تهرب شركة «آبل» من دفع الضرائب على سيولة تفوق 140 مليار دولار تحتفظ بها في إيرلندا.
أهمّ المشاريع هي تلك الخاصة بتمويل النفقات الدفاعية، النفقات الخاصة بقطاع الطاقة وتلك التي يجب تحويلها إلى الوكالة الوطنية للطيران والفضاء (NASA). ولعلّ أبرزها حالياً المشروع الخاص بتعزيز وتدعيم القطاع الزراعي، إذ يُقدّر الخبراء أنه إذا لم يجرِ إمرار هذا المشروع قبل نهاية العام الحالي، فإنّ أسعار الحليب في السوق الأميركية سترتفع كالصاروخ؛ فعلياً، سيرتفع سعر غالون الحليب من 3.65 دولارات إلى بين 6 و8 دولارات، أي بنسبة قد تصل إلى 120%.
هناك أيضاً معضلة سقف المديونية العامّة الذي يُفترض رفعه كل فترة. وإذا لم يُعمد إلى رفع السقف خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، فستجد الحكومة نفسها غير قادرة على الاستدانة مع حلول ربيع عام 2014.
الاتفاق يجب أن يُقرّ في مجلسي النواب والشيوخ، لكن إضافة إليه هناك مشاريع قوانين كثيرة تُعد حيوية لاقتصاد البلاد أعدتها الإدارة الديموقراطية، إلا أنّ الأكثرية الجمهورية في مجلس النواب تبقى تعرقلها؛ وقد تحدّث الرئيس باراك أوباما بلهجة حادة قبل شهرين حول أهمية إمرارها.
ويأتي الاتفاق الجديد بعد شهرين تقريباً على حالة الشلل التي عاشتها البلاد، حين دخلت الإدارة الفدرالية في إجازة غير مدفوعة وتوقّف عمل أكثر من 80% من عديدها؛ ويرمي من خلاله الديموقراطيون إلى تجنب شلل جديد، فيما يعوّل الجمهوريون على قدرته على ترميم صورتهم أمام الرأي العام، بعدما تهشّمت نتيجة سياسة التعنّت التي مارسوها ضدّ الإدارة الديموقراطية. الجناح المتطرف في الحزب الجمهوري – من تيار «حفلات الشاي» إلى الشركات الكبرى ذات النفوذ المحافظ – يُبدي رفضاً قاطعاً لمشروع الرعاية الصحية الذي صاغته إدارة أوباما (المعروف باسم Obamacare) لمعالجة النظام الصحي المهترئ في البلاد؛ فحتّى مع دخول هذا المشروع حيز النتفيذ كلياً مع شراء العائلات لخطط الضمان الصحي المدعومة، سيبقى هناك نحو 20 مليون أميركي من دون تغطية صحية لعدم امتلاكهم الموارد المالية لشراء برنامج ضمان مهما كان رخيصاً.
وكان الرئيس أوباما قد قدّم في الربيع الماضي مشروعاً بقية 3.77 تريليونات دولار لموازنة العام المالي 2014 الذي انطلق في 15 تشرين الأول الماضي؛ أمَلَ حينها أن يؤدي المشروع إلى صفقة كبرى مع الحزب الجمهوري، تتضمّن خفضاً للنفقات على الرعاية الصحية وعلى الحماية الاجتماعية إجمالاً.
وتؤدّي هذه الخطة في حال اعتمادها إلى خفض العجز المالي الإجمالي بحوالى 1.8 تريليون دولار خلال العقد المقبل.