يدق التغيير باب روما اليوم؛ إيطاليا التي ظلت لأكثر من عقدين من الزمن في قبضة أحزاب اليمين، حتى ولو مر عليها بعض الحكومات اليسارية، بدأت فعلياً عملية الانتقال إلى الضفة المقابلة بعدما أغرقها رئيس الوزراء السابق الشهير، وزعيم اليمين الإيطالي سيلفيو برلوسكوني بالمشاكل المستعصية.
يوم الأحد الماضي شهد علامات مؤكدة على استعادة اليسار الإيطالي لعافيته وخروجه من ظل غريمه. انتخابات زعامة الحزب الديموقراطي التي توقع المراقبون أن يقابلها الشارع بقلة اهتمام، فاجأت الجميع من حيث أعداد المقترعين. شارك فيها ما يقرب من مليوني ونصف مليون ناخب إيطالي يساري، وفاز بها السياسي الشاب، وربما وجه إيطاليا المقبل، ماتيو رينزي.
سبعون بالمئة هي نسبة ماتيو رينزي من الأصوات، سحق فيها أقرب منافسيه جياني كوبيرلو بفارق خيالي تجاوز الـ 52 بالمئة.
ورينزي، أو «المدمر»، كما يطلق عليه البعض في إيطاليا، اكتسب هذا اللقب بسبب محاولته تنظيف اليسار من الوجوه الفاسدة في داخله، إضافةً إلى ضخ دماء جديدة في السياسة الإيطالية الواقعة في قبضة مجموعة من رجال السياسة الكبار في السن. وهو سياسي شاب يبلغ من العمر 38 عاماً ويشغل منصب عمدة مدينة فلورنسا، ولفوزه بهذه الانتخابات أهمية كبيرة كون إيطاليا بلداً يعرف أهله بميولهم إلى الاشتكاء والتذمر بدون العمل على إحداث تغيير (باعتراف أهلها). ولربما هذا يفسر سبب اعتلاء اليمين للحكم لهذه الفترة الطويلة من الزمن، إذ إنهم «يكرهون التغيير، إلى درجة أنهم مستعدون لتغيير كل شيء، لكي لا يتغير شيء» كما يقول الكاتب الإيطالي دي لاميدوزا. لكن هذه المرة قد تكون فعلاً مختلفة، لعل الإيطاليين يبحثون بجد عن تغييرٍ جذري لأوضاعهم التي ما فتئت تتدهور منذ الأزمة الاقتصادية في عام 2008 والتي عجزت الحكومات المتوالية عن إيجاد حلول لها.
نقطة إيجابية مهمة تسجل لرينزي هي اضطراره إلى محاربة أحزاب اليمين من جهة، وحلفائه من اليسار من جهة أخرى على حد سواء، الذين رأوا فيه خطراً يتهددهم جميعاً في حال صعوده سلم النجومية السياسية؛ فهو الوجه الشاب الذي قد يطيح الوجوه المتجعدة التي ملّ الشارع الإيطالي من رؤيتها. وربما ما يزيد من شعورهم بالخوف بشكل هو أنه نجح في توحيد الجبهة اليسارية لأول مرة منذ سنوات عدة، بطريقة مماثلة للتي نجح فيها برلوسكوني مع اليمين في أوائل تسعينيات القرن الماضي، فاسحةً المجال أمامه للبقاء في قلب السياسة الإيطالية إلى يومنا هذا. أما شعبياً، فإن أكثر ما شجع الناخبين على التصويت لرينزي هي خططه الإصلاحية التي تحتاج إليها إيطاليا اليوم أكثر من أي وقت مضى. وتتضمن خططه تخفيض الضرائب وإصلاح النظام الانتخابي وتعديل قوانين العمل. كما جرى تشبيهه من قبل بعض المحليين برئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير والرئيس الأميركي باراك أوباما، نظراً إلى نجاحه الباهر وإلى صغر سنه.
إلا أن التفاؤل المفرط قد يكون قاتلاً في بعض الأحيان، إذ إن آمال الكثير من الإيطاليين صارت معلقةً به، وكثيراً من العيون باتت مسلطةً عليه، ووعوده الكبيرة للإصلاح قد تتحول إلى ثقل عملاق هو غير قادر على تحمله، وخصوصاً في بلدٍ معروف عنه معاناته من تفشي الفساد بين أفراد طبقته الحاكمة. وقد عبّر الكثير من الناخبين عن هذه المخاوف، فهم لا يريدون تكرار تجربة برلوسكوني الذي كان قد أطلق وعوداً كثيرة في أوائل عهده، لكنه لم يف إلا بقليل منها، فاستعان بحنكته السياسية المعروفة ليشكل لوبي يمينياً قوياً يضمن له البقاء في واجهة الأحداث لأكثر من عقدين من الزمن.
فشل رينزي الآن هو ما يتمناه خصومه وحلفاؤه في السياسة، وفي حال سقوطه فمن المؤكد أنهم سيصنعون منه عبرةً لكل من يحاول أن يغير من روتين السياسة الإيطالية، قد يكون درساً لكل من يحاول أن يثور على ملوك الحكم. وصف رينزي بمنقذ لإيطاليا عبارة قد لا يصدقها الكثيرون، فأمامه مهمة تحفّها المخاطر من كل جنب وخصوصاً في ظل غياب الثقة بينه وبين من يدّعون أنهم حلفاؤه، ولكن المؤكد واحد، وهو أنه في حال تعثره، فسيحرص «الحلفاء» والخصوم على دفن «المدمر».