بروكسل | ما كان يتردد كشائعة في الأوساط المالية، منذ نهاية السنة الماضية، عن نية وكالة «ستاندرد أند بورس» إعادة تقويم التصنيفات الائتمانية لـ 15 بلداً أوروبياً، أصبح الآن أمراً واقعاً. ففي مساء الجمعة الماضية، أعلنت الوكالة رسمياً خفض تصنيفات 6 دول في منطقة اليورو، التي تتخبط في أزمات شائكة بفعل مشكلة الدين العام.
لكن القرار جاء أقل حدة مما كان متوقعاً، حيث لم يشمل سوى 9 دول أوروبية من مجموع 15. ومثّل استثناء ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأوروبي الأبرز، عاملاً مطمئناً. إلاّ أن خفض تصنيف فرنسا، التي يأتي اقتصادها في المنزلة الثانية، كان له وقع الصاعقة، سواء لجهة الانعكاسات المتوقعة على عالم المال والأعمال في القارة العجوز، أو من حيث تأثيرات ذلك على الصعيد الداخلي في فرنسا، التي تفصلها أقل من مئة يوم عن موعد انتخابات الرئاسة.
وبموجب القرار الأخير، انخفض التصنيف الائتماني لفرنسا من مرتبة الامتياز (Triple A) إلى المنزلة الثانية (AA+). وخُفضت علامة النمسا أيضاً إلى (AA+)، بينما تدحرجت سلوفينيا إلى المنزلة الخامسة (A+)، وتراجعت إسبانيا وسلوفاكيا إلى المنزلة السادسة في التصنيف (A)، ومالطا إلى المنزلة السابعة (A-)، وإيطاليا إلى المنزلة الثامنة (BBB+)، وقبرص إلى المنزلة الـ 11 (BB+)، والبرتغال إلى الترتيب الـ 12(BB). وبهذا لم تبق في خانة الامتياز، التي تضم الدول الآمنة تماماً من الأزمات الاقتصادية الكبرى، سوى أربع دول أوروبية، هي ألمانيا وفنلندا ولوكسمبورغ وهولندا. ويعني التصنيف الجديد أيضاً أن عشر دول من مجموع 17 في منطقة اليورو، انخفظت تصنيفات اقتصادها إلى مستويات مقاربة لاقتصادات دول العالم الثالث!
ويرتقب أن تكون لهذه الخفوضات تأثيرات وخيمة على التوازنات الاقتصادية لمنطقة اليورو، حيث ستتسع هوة الفوارق في مقدرات دول الاتحاد على الاقتراض من الأسواق المالية لتسديد ديونها السيادية، ما سيعقّد أكثر مهمة المفوضية الأوروبية في مجال اعتماد سياسات اقتصادية متناسقة أوروبياً، سواء في ما يتعلق بخفض الدين العام ومحاربة الركود والبطالة، أو في مجال السهر على تكافؤ شروط المنافسة الاقتصادية، الذي يعد عاملاً حيوياً للحفاظ على توازن الفضاء الاقتصادي الأوروبي المشترك.
وتتشعب الأسباب التي أدت إلى هذه الخفوضات في التصنيف الائتماني، لكنّ المراقبين الأوروبيين في بروكسل يرون أن العامل الأبرز يتمثل في ثقل آليات اتخاذ القرار على الصعيد الأوروبي، حيث لا تسمح تلك الآليات بالتفاعل مع القضايا والأزمات الاقتصادية المستجدة بالسرعة والفعالية التي يقتضيها تسارع وتيرة المبادلات المالية، وتداخل اقتصادات مختلف الدول والكتل الإقليمية بفعل العولمة.
وتفرض هذه المعطيات على الدول الأوروبية تحديات إشكالية. فالاتحاد الأوروبي يقف اليوم في مفترق طرق مصيري. ويجب على القادة الأوروبيين أن يقرروا الوجهة المطلوبة. فالأزمات الحالية تهدد بانفراط عقد الاتحاد الأوروبي، إذا استمرت كل دولة في تغليب مصالحها الخاصة. ولا يمكن تفادي مخاطر الحنين إلى ما قبل الاتحاد، سوى بالانخراط في مزيد من الاندماج الهيكلي الأوروبي، عبر تعميق الاتفاقيات الاتحادية من أجل استحداث حكومة اقتصادية أوروبية في بروكسل. وهو الأمر الذي تعارضه بشدة التيارات اليمينية المحافظة في أغلب دول الاتحاد، بحجة أنه يُفقد الحكومات الوطنية مزيداً من الصلاحيات السيادية، التي ستنتقل إلى أيدي «تكنوقراط بروكسل»، الذين ليسوا منتخبين من قبل شعوب دول الاتحاد، وبالتالي لا يمكن إطاحتهم أو التأثير فيهم عبر صناديق الاقتراع. ولا يزال الاتحاد الأوروبي، منذ أن تأسست هيئاته في صيغتها الجنينية الأولى، سنة 1975 من خلال معاهدة روما المتعلقة بإقامة «السوق الأوروبية المشتركة»، يواجه معضلة مزمنة تتمثل في رفض بعض الدول الأعضاء تغليب الصالح الاتحادي على الاعتبارات الداخلية. وفي مقدمة تلك الدول بريطانيا، التي رفضت التخلي عن عملتها لحساب اليورو، كما أنها تعرقل حالياً الضريبة على المبادلات المالية.
وقد جاء قرار «ستاندرد أند بورس» بخفض التصنيفات الائتمانية الأوروبية، ليؤكد عدم فعالية الخطوات التي اتخذها قادة الاتحاد الأوروبي، في الأشهر الأخيرة لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية، ومن بينها تأسيس صندوق اقتصادي أوروبي بألف مليار يورو، والتصديق على سلسلة من القوانين، منها ستة قوانين تشريعية تهدف إلى تأسس حكومة اقتصادية اتحادية، وسن ميثاق أوروبي بخصوص عجز الميزانيات، وشُرع في فرض عقوبات أوروبية على دول الاتحاد التي لا تحترم ميثاق النمو والاستقرار الأوروبي.
وقد أشادت «ستاندرد أند بورس» بكل تلك القرارات لأنها تتصدى بحزم لمعضلة الديون السيادية، لكنها رأت أنها غير كافية لإعادة الاقتصاد الأوروبي إلى السكة الصحيحة، لأنها لم تتضمن إجراءات كفيلة بإعادة إطلاق قاطرة النمو الاقتصادي. وجاء قرار الوكالة بالرغم من أن الاتحاد الأوروبي قرّر أن يعقد في نهاية الشهر قمة اتحادية ستخصص لوضع خطة أوروبية لتنشيط عجلة النمو، وإطلاق برامج تنموية من أجل الخروج من حلقة الركود التي يدور فيها الاقتصاد الأوروبي منذ أن تفجرت أزمة اليونان.
وعبّرت الناطقة باسم المفوضية الأوروبية، كريستينا أوريخو، عن استغرابها لاستباق قرار «ستاندرد أند بورس» للقمة التنموية الأوروبية، وقالت إن التصنيف الجديد «جاء في توقيت غير مناسب على الإطلاق، وينم عن عدم تقدير الوكالة للمجهود الذي يقوم به الاتحاد الأوروبي».
من جهته، رأى المفوض الأوروبي، ميشال بارنييه، أن «وكالات التصنيف ترتكب اليوم خطأً جديداً، حين تحكم على خطط التضامن الأوروبية بالفشل والإفلاس. ولا مبالغة في القول إن التصنيف الأخير سياسي لا تصنيف اقتصادي».