لـ«ستراتفور» مشكلة عقائدية مع «ويكيليكس» وما تمثّله. فالأولى هي شركة استخبارات تقوم على السرية والحفاظ على المعلومات وحصرها ضمن دائرة صغيرة في السلطة تتحكم بالحقائق، والثانية موقع مشاكس همّه الأول إيصال الحقائق إلى الناس من خلال فضح الأسرار والكشف عن كل ما تريد الحكومات والشركات الكبرى واللوبيات إخفاءه عن المواطنين.
لذا، فقد ترى «ستراتفور» في عمل «ويكيليكس» أنه غير قانوني ويجب إيقافه بأي شكل. و«ويكيليكس» تؤمن بأن من واجبها خرق تلك الشركة والكشف عن عملها الاستخباري ومدى ارتباطها بالحكومة الأميركية وعملها لمصلحة سياساتها وسياسييها على حساب الحرية والعدالة وحقوق المواطنين. لكن يبدو أن المشاكس تغلّب على المخبر مرة جديدة، واخترقه ونشر معلوماته الحساسة للعموم، وهي ليست أي معلومات، بل المراسلات السرية التي دارت بين المسؤولين والمخبرين والمحللين في الشركة الاستخبارية على مدى سنوات.
تلك الرسائل الإلكترونية، تبيّن في جزء منها (بين منتصف ٢٠١٠ ــ ٢٠١١)، كيف تعاطى العاملون في «ستراتفور» مع ظاهرة تسريبات «ويكيليكس» وكيف كان رد فعلهم على البرقيات الدبلوماسية التي سرّبها الموقع العام الماضي، وكيف ينظر المسؤولون الاستخباريون إلى أشخاص مثل برادلي مانينغ أو جوليان أسانج.
وفيما طالب معظم العاملين في «ستراتفور» بـ«سجن أسانج وإسكاته وتعذيبه»، سخر آخرون من مانينغ ونعتوه بـ«المغفل» وحيّوا قرار اعتقاله. لكن في الوقت نفسه، اقترح أحد المسؤولين فيها استخدام بعض تسريبات «ويكيليكس»، لأهداف ربحية» (رسالة رقم 1660708).
كيف واكبت «ستراتفور» إذاً صعود ظاهرة «ويكيليكس» واختراق «المحرّمات»؟
خلال عام ٢٠١٠، عندما بدأت أولى التسريبات التي تمسّ الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، وبعدما ظهر اسم الجندي الأميركي برادلي مانينغ، الموقوف لغاية اليوم من دون صدور أي حكم قضائي بحقه، تساءل المسؤولون في «ستراتفور» عن الأمر وعن مانينغ وأسانج. «ما كان دافعه لفعل ذلك؟»، سأل نائب رئيس «ستراتفور» لمكافحة الإرهاب والضابط السابق في الأمن الدبلوماسي فريد بورتن خلال نقاش مع أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية مايكل بسيليكو في رسالة (رقم384492 ).
ومع استمرار التسريبات الحساسة وتبلور قضية مانينغ، يُبلَغ بورتن في إحدى الرسائل (رقم365135 ) بأن الجندي الأميركي مصدر التسريب «قد يواجه حكم الإعدام أو السجن لمدى الحياة إذا نُشر المزيد»، وهنا علّق بورتن بالقول إن مانينغ «مغفل» وأردف زميله نائب رئيس الاستخبارات التكتيكية سكوت ستيوارت بأنه «لا بدّ أنه سيقضي وقتاً ممتعاً في السجن».
لكن المسؤولين في «ستراتفور» بدأوا يشعرون بالحيرة والحذر حيال «ويكيليكس» وأسانج وما ينوي القيام به، ما دفع بورتن إلى السؤال في إحدى رسائله (رقم387684 ): «من يموّل ويكيليكس؟ هل هي شركة مموّهة روسية؟» ويضيف عن أسانج: « ذلك الرجل يجب أن يسجن».
وفي بداية الأمر سعى موظفو «ستراتفور» إلى التقليل من أهمية ما جاء في الوثائق المسربة، وخصوصاً تلك المتعلقة بأفغانستان والعراق، فيما استمر الهجوم على أسانج، «لا بد أنه تقاضى أموالاً طائلة مقابل ذلك، لكن يجب أن نبقي أعيننا مفتوحة ونراقب ما ينشر بدقة شديدة»، تقول إحدى رسائل عام ٢٠١٠ (رقم 1176673).
شخصية أسانج بحدّ ذاتها مثّلت محور اهتمام «ستراتفور»، فأفردت إحدى الرسائل المتبادلة بين بعض المسؤولين والمحللين (رقم 1630947) نبذة عن سيرته المهنية والشخصية، حيث صوّروه متسلطاً وإرهابياً ومعتدياً جنسياً، ويقرر ما يشاء بنفسه من دون استشارة العاملين معه، كذلك فإنه يرى أن «ويكيليكس» تنحصر بشخصه وقد علّق ستيوارت على سيرة أسانج بالقول «إنه مجنون واهم». والنقطة التي ركّز عليها أكثر من محلل لشخصية أسانج، هي أن لديه «عداءً ظاهراً وعلنياً تجاه الولايات المتحدة» (رسالة رقم1657261). وفي الرسالة نفسها، تقترح المحللة ريفا بهالا أنه «يجب توقيف أسانج وملاحقته بتهمة التجسس».
وبعد إرسال البنتاغون تحذيراً إلى الكونغرس واللجان البرلمانية والسفارات ينبّه فيه من نشر ويكيليكس كمية من الوثائق التي تشمل مواضيع حساسة في السياسة الخارجية، ما سيؤثر على العلاقات الخارجية للولايات المتحدة (رسالة رقم 1646125)، ظهرت مجموعة من الرسائل بين المحللين والمسؤولين في ستراتفور عن الموضوع، كانت أولاها تحذيراً من رئيس مجلس الإدارة جورج فريدمان (رسالة رقم 1029168) توجه فيه إلى المسؤولين بالقول: «أريد من كل مسؤول في نطاق عمله أن يرصد إذا كانت هناك أي معلومة محرجة لأي كان، أو ما اذا كانت ستراتفور تظهر أنها تخطت حدودها أو ذهبت بعيداً». وفي رسالة أخرى (رقم 1025066) يقول فريدمان: «يجب أن نجهز أنفسنا لخوض ذلك الأمر، ونستعدّ جيداً لرصد وتبيان الأشياء التي ستذكر في الوثائق؛ فهي تبدو مهمة».
وفي رسالة طويلة (رقم 1024771) بين فريدمان وستيوارت يبحثان فيها أهمية الوثائق الدبلوماسية التي ستنشر، يخلص المسؤولان إلى أن «الوثائق ستضر كثيراً بالعلاقات الدبلوماسية الأميركية؛ إذ إنها ستنقل تفاصيل لقاءات سرية بين رؤساء ودبلوماسيين، ما سيؤثر سلباً على الولايات المتحدة؛ إذ سيكشف ما سيرتد على واشنطن سلباً وسيستخدم ضدها».
وقد يبقى الأهم في تلك الرسائل هو ما أكّد أن لـ«ستراتفور» علاقات ومصادر استخبارية داخل الإدارة الأميركية مكّنتها من معرفة نوع الأحكام التي تعدّها الولايات المتحدة لتصدر بحق أسانج بعد نشر الوثائق. ففي كانون الأول ٢٠١٠ أرسل شون نونان لزملائه المحللين يقول إن «لديه معلومات عن أن الحكومة الأميركية ستحاكم أسانج بتهم غير تلك المتعلقة بالتجسس» (رسالة رقم 1084229).
وفي ٢٦ كانون الثاني ٢٠١١، أرسل بورتن (رسالة رقم 375123) معلومات إلى اللائحة «الآمنة» من الموظفين، مع إشارة «غير مخصصة للنشر»، قال فيها «وصلَنا اتهام أسانج مختوماً».
من جهتهم، سعى الـ«ستراتفوريون» للوصول إلى وثائق ويكيليكس الدبلوماسية قبل أن تُنشَر كما تظهر الرسائل المتبادلة بين ستيوارت ومجموعة المحللين (رقم 1184240). يقول أحدهم إنه «اتصل ببعض القراصنة من أصدقائه لمساعدته، لكن هؤلاء أكدوا له أن اختراق تلك الوثائق الموجودة في عهدة ويكيليكس صعب جداً، لا بل شبه مستحيل». لذا، يخلص المحلل بقوله: «يبدو أننا لن نحصل على الوثائق إلا عندما تنشرها ويكيليكس». وتشير الرسالة إلى أن الولايات المتحدة ستحاول أن تجد طريقة لتضع يدها على الملف. وستفعل كل ما بوسعها لحماية المعلومات التي بحوزة أسانج والحد منها. والأهم حماية المصادر وأساليب العمل. لكن الأهم الآن يبقى حصر الأضرار وتحويل رؤية الأمور لصالح الحكومة الأميركية. ويسأل أحد المسؤولين: «إذاً من سيشتريها؟ الروس أم الصينيون؟» فيجيبه زميله: «هذا ليس أسلوب عمل وتفكير ويكيليكس، فهم لن يبيعوا المواد لأحد، بل سينشرونها هم. فهم يعدّون أنفسهم روبن هود حرية الصحافة». ويضيف المتحاورون عن جماعة «ويكيليكس» أنهم «يصورون أنفسهم بأنهم مثاليون، لكنهم مجرد ميليشيا سيبيعون معلوماتهم لأجهزة الاستخبارات»، فـ«أسانج يتحدث كثيراً عن العدالة وتفاهات مماثلة».
«ستراتفور» كانت على خطأ مرة جديدة، والدليل نشر كل الداتا من دون مقابل.







«ستراتفور» تنأى بنفسها


بعدما تلقّت «ستراتفور» ضربة موجعة من «أنونيموس» و«ويكيليكس»، وباتت أسرارها مكشوفة للعلن، قررت اعتماد موقف مشابه للخارجية الأميركية بعد فضيحة الوثائق الدبلوماسية العام الماضي، فنأت بنفسها عن الخوض في الأمر.
وفي بيان رسمي صادر عنها بعيد نشر المراسلات، قالت «ستراتفور»: «لن نؤكد ولن ننفي صحة ما سرّب من الرسائل الإلكترونية. بعضها قد يكون أصيلاً وبعضها الآخر يمكن أن يكون قد جرى التلاعب به وتزويره». «تعرضنا للسرقة ولن نكون الضحية مرتين بقبول استجوابنا في مضمون المراسلات أيضاً»، يضيف البيان. وتقول «ستراتفور»: «هذا هجوم مباشر علينا يهدف مرة جديدة إلى إسكاتنا وإحراجنا لكننا لن نسكت». وعن المخبرين التابعين لها والعاملين في دول العالم، علّق البيان بالقول: «ستراتفور لديها، كأي شركة ناشرة للتحليلات الجيوسياسية مصادر تعتمد عليها حول العالم». وعن مضامين المراسلات، تقول «ستراتفور»: «كتبت الرسائل بطريقة غير رسمية؛ إذ لم يتوقع كاتبوها أن يطلع عليها أشخاص غير المرسلة اليهم». ووعدت «ستراتفور» قرّاءها بأنها «ستتابع عملها كالمعهود، شاكرة ولاءهم لها».