خلال الفترة الأخيرة، اجتاح فيلم «جوزيف كوني 2012» مواقع التواصل الاجتماعي. فجأة جُيّرت كل الحسابات من أجل الدعوة إلى تفحص الشريط المصوّر الذي أعدّته منظمةinvisible children، معلنةً تضامنها مع الحملة التي تسعى الى النيل من مجرم الحرب جوزيف كوني. الفضول هنا يشدّ في اتجاهين، الأول معرفة من هو كوني هذا، والثاني لمشاهدة هذا الإنتاج الذي استقطب كل هذا الحشد وأثار الإعجاب، وبالطبع معرفة الجهة التي تقف وراءه.
المفاجأة تأتي عند التعرّف إلى «بطل» الفيلم. وهو المطلوب الأول في العالم على لائحة مجرمي الحرب. ومع ذلك، فهو غير معروف. لا شكّ أن حملة invisible children، رغم كل الانتقادات لجهة ضعف التوثيق والإحداثيات أو التشكيك في نواياها، لامست البعد الإنساني للقضية، ونجحت بعد مرور أسبوعين في تسليط الضوء على اسم كوني. كما نجحت على نحو متساوٍ في الترويج لـ invisible children وأعمالها.
نجحت الحملة في اختيار بطلها. مجرم غير معروف، وجرائمه لا تخص الشعب الأوغندي وحده، هي جرائم ضدّ الإنسانية، بل تطال أرقى ما في هذه الإنسانية، الأطفال. وبعيداً عن الانتقادات التي يمكن أن توجه الى الفيلم والمنظمة التي تقود حملة القبض على كوني، فإن سؤالاً يطرح نفسه: من هو هذا الرجل الأفريقي، الذي يجنّد الأطفال ويدّعي أنّ الأرواح تكلّمه وترشده، ولا شك أنها شيطانية؟
كوني هو زعيم جيش الرب الأوغندي. الميليشيا المسلحة، ذات العقيدة الدينية المتطرّفة من الإثنية الأكولية، التي دخلت في صراع مع القوات الحكومية الأوغندية منذ أواخر الثمانينيات. لكنه لم يلبث أن انقلب على شعبه الأكولي، بعدما باتوا ضحاياه الأساسيين. لقد نهش جوزيف كوني لحم شعبه. قهر الملايين. أعماله الإرهابية دفعت بأكثر من مليوني نسمة إلى النزوح من أغولي ولانغو والمكوث في مخيمات للاجئين. استعبد أكثر من 35 ألف طفل (هناك مصادر تتحدث عن 66 ألفاً)، خطفهم من عائلاتهم، فيما كانوا يلعبون في الحقول، أو من داخل بيوتهم أو مدارسهم، لكلٍ منهم حكايته.
الشريط المصور لـ invisible children يعرض حكاية جاكوب، الذي جنّده كوني وقتل أخاه عبر دق عنقه. جاكوب يتمنى الموت «ومغادرة هذه الأرض» كي يلتقي بأخيه الذي يفتقده كثيراً. ومنذ ذلك الحين، أي قبل 9 أعوام، قطع معدّ الفيلم الأميركي، جيسون راسل، وعداً بأنه سيوقف القاتل.
ماذا فعل جوزيف كوني أيضاً؟ لقد دمر وحرق قرى ومستوطنات ومخيمات للاجئين. خطف واغتصب وأرهب الأطفال وأهاليهم. استخدم أبشع أساليب التعذيب، قتل وقطع أيادي وأرجلاً وآذاناً، واقتلع عيوناً وحناجر ورؤوساً. جعل من الفتيان جنوداً في ميليشياته. أعطاهم السلاح وعلّمهم القتل. حارب من خلالهم جيوشاً نظامية؛ جيوش أوغندا وجنوب السودان وجمهورية الكونغو الديموقراطية ووسط أفريقيا وقوات حفظ السلام الدولية العاملة في الكونغو «مونوك». اغتصب الفتيات، أو اتخذ من بعضهن زوجات له أو عشيقات.
وبما أن الضحية تقع أحياناً في غرام جلادها، فإن كثيراً من الفتيات الصغيرات اللواتي خطفهن كوني واتخذ منهن زوجات أو عشيقات (بعض التقارير تتحدث عن 50 زوجة)، دافعن عنه، وقلن عنه إنه رجل طيب كان يعتذر منهن بعد أن يضربهن.
لماذا الأطفال؟ لأن كوني أراد تشكيل شعب «أكولي» وفق رغباته. اختار الصغار لأن عقولهم صفحات بيضاء، فأراد أن يخطفهم ويبعدهم عن عائلاتهم كي يزرع فيهم أفكاره المستمدة من الأرواح الشيطانية التي تكلّمه، ويُعيد بذلك تشكيل شعب أكولي جديد.
قد يُفترض أن شخصية قادرة على ارتكاب هذه المجازر ليست عادية. ولا بدّ من أن تكون تركيبة معقدة أنتجتها حياة وظروف مريرة. لكن السير الذاتية المنشورة لكوني تشير الى أنه نشأ في كنف عائلة متواضعة. فهو الابن الأصغر لعائلة أغولية مؤلفة من 6 أولاد. أبوه لويغي أبول، كان مدرساً وناشطاً في الكنيسة الكاثوليكية. والدته نورا أنيك، تُوفيت أخيراً عن عمر 86 عاماً، ويُقال إنها همست وهي على فراش الموت لممرضتها قائلةً «قولي لجوزيف أن يترك السلاح ويعمل من أجل السلام»، وعندما اشتدت المجازر، أُرسلت له كي تضغط عليه لإبرام السلام، لكنه كان يقول الشيء ويفعل عكسه. لم يكن لامعاً في الدراسة. يُذكر أنه كان يتمتع بحس الفكاهة. مهذب ولطيف. ويعشق كرة القدم. راقص لاراكاراكا بارع، وهي الرقصة التقليدية للإثنية الأكولية. وكان يستمتع عند الاحتفاء به. فتى نموذجي.
وبما أن والده كان واعظاً في الكنيسة الكاثوليكية، فإنه كان فاعلاً ومتميزاً بين الفتية هناك. لم ينه تعليمه، ويُقال إنه عمل مع أخيه الأكبر جينوني أوكيللو، الذي كان يدير مزاراً تقليدياً خارج أوديك، وأصبح طبيباً مشعوذاً.
كيف بدأت هذه الحرب التي يخوضها كوني باسم إلهي وإثني؟ هي ترجع الى بداية الثمانينيات، حين قاتل الرئيس الأوغندي الحالي يوري موسيفني مع جيشه الرئيس الأكولي، أوكيلو، وانتزع منه السلطة عام 1986. وأجبر جيش أوكيلو على الفرار الى جنوب السودان والشمال.
كانت هزيمة مريرة للأكوليين، دفعت بهم الى الانتفاضة المسلّحة عبر إنشاء جيش الشعب الأوغندي، بقيادة قريبة كوني، أليس لاكوينا، التي كان أتباعها يعتبرونها «جان دارك» الأكولية. ألهمت الآلاف من المقاتلين الذين اعتقدوا أن بإمكانهم أن يحاربوا بالعصيّ والحجارة، على أمل أن لا يخترق رصاص الأعداء أجسادهم، التي كانت تمسح بالماء والزيت. اعتقدوا أن الحجارة التي يرمونها ستتحول الى ذخيرة حية، وأن جيش موسيفيني سيهزم وسيتم تطهير الأرض وسيعودون الى السلطة. هنا لعب كوني دور المرشد الروحي لجماعته، بحيث اكتسب حضوراً قوياً كفتى متدين ومشعوذ.
حققت أليس نجاحاً مذهلاً في البداية، لكنها عجزت عن الصمود أمام قوات خارقة بأسلحة متقدمة. هُزمت وفرت الى كينيا، حيث مكثت في مخيم للاجئين حتى وفاتها في 2007. لم تكتمل فرحة الجيش الأوغندي بهذه الهزيمة لجيش أليس؛ فبعد فترة أُعلن عن تشكيل حركة متمردة جديدة، هي جيش الرب، بقيادة جوزيف كوني، الذي أعلن الحرب على كامبالا.
وجد الأكوليون في زعيمهم الجديد، الذي «يستمد شرعيته من الأرواح والآلهة»، مخلصاً سيستعيد لهم الكرامة والسلطة والأراضي والمواشي. في الفترة الأولى من القتال، لم يعتمد كوني على خطف الأطفال، واستطاع تحقيق انتصارات ضدّ القوات الحكومية، وكان يخطط لإطاحة الحكومة وفرض حكم ثيوقراطي، وفقاً لمبادئ الوصايا العشر.
هذه الانتصارات دفعت الحكومة الأوغندية الى تعيين الأكولية، بيتي آكان بيغومبي، وزيرة للدولة لشمال أوغندا، وشنّت عملية عسكرية لم تلبث أن أُحبطت بعدما صدّها جيش الرب. لكنها أدت الى إغلاق المنطقة الشمالية الأكولية، وأطلقت حملة اعتقالات بحق السياسيين الذين يُخشى تعاونهم مع كوني، وفرض تعتيم إعلامي.
المنطقة المحاصرة عاشت بعدها أحلك لياليها. باتت بلاداً مستباحة. سرقات ونهب وقتل واغتصاب ومجازر، وُجّهت أصابع الاتهام فيها الى قوات كوني. فقامت بيتي وفريقها بعدها بإمداد الأكوليين بالسهام والأقواس كي يدافعوا عن أنفسهم ضدّ كوني، وهذا ما أثار غضبه، فانقلب على شعبه، بعدما شعر بالخيانة. وخاض بعدها قتالاً على جبهتين، ضدّ أتباعه الذين شكّ بأنهم هجروه، وضدّ القوات الحكومية. وسلك مساراً جديداً في معاركه لتكون أكثر بشاعة ودموية. وفي 1992، كانت أولى عمليات الخطف من داخل ثانوية للبنات راح ضحيتها 44 فتاة.
وبما أن الحجارة والأقواس والعصي لم تعد كافية لمعاركه ضدّ جيش نظامي، كان عليه أن يصنع لنفسه علاقات إقليمية تؤمن له إمدادات الأسلحة، فتوجهت أنظاره نحو الخرطوم. وكان له ما شاء من التسليح والتدريب أيضاً، بما أن أوغندا تعدّ حكومة معادية للسودان بسبب دعمها لجون غارانغ، الى أن وضعته محكمة العدل الدولية على قائمة مطلوبيها في 2005، وأصدر الأنتربول مذكرة توقيف بحقه، فكبحت الخرطوم جماح دعمها، ولا سيما بعدما وقعت اتفاقية سلام مع الجنوب في العام نفسه.
المجازر وأعمال العنف دفعت موسيفيني الى الدخول في مفاوضات سلام مع كوني. لكن الأخير استغلها لإعادة تنظيم صفوف قواته والهجوم من جديد. منذ 2006 كانت هناك معارك متقطعة بين جيش الرب الأوغندي والقوات النظامية الأوغندية. صحيح أن كوني كان مسيحياً متشدّداً، كما كانت المبادئ التي قام عليها جيش الشعب الأوغندي بقيادة أليس لاكوينا، لكن هناك تقارير تشير الى أنه انقلب على هذه المبادئ. ويحلو للبعض أن يتهمه بأنه انقلب على المبادئ المسيحية واعتنق الإسلام وأنه اتخذ من «محمد» اسماً له، وأن جنوده كان يهتفون «الله أكبر» عندما كانوا يجتاحون القرى، لكن على الأرجح أنّها ادّعاءات كانت علاقته بعمر البشير دافعاً للترويج لها. فكوني يعتنق رؤية شيطانية مرتبطة بالأرواح والسلطة، يستخدمها لتجييش أتباعه بعقيدة ماورائية. يدّعي أنه يستمع للأرواح، وهي التي تعطيه الأوامر وينقلها لأتباعه.
كوني اليوم مطارد. يُقال إنه خارج أوغندا منذ 2006. وأيضاً أنه مات قبل خمسة أعوام. لكن روايات أخرى تستبعد مقتله، وتشير إلى أنه صاحب تسع أرواح «لأن الزئبق يجري في عروقه بدل الدم». في 11 تشرين الأول 2011، قرّرت إدارة باراك أوباما إرسال قوات أميركية لمطاردته واعتقاله أو قتله، وهي المرة الأولى التي تتدخل فيها أميركا بالخارج في حرب ليست حربها. هذا ما يذكره فيلم invisible children.
من هو جوزيف كوني؟ هو شيطان مجنون. يمكن أن تصوّره كمصاص دماء يستمد قوّته من مصّ الأرواح الطرّية. لهذا يختارهم أطفالاً، كي يزرع في عقولهم الخام أفكاره الشيطانية. يجعل منهم قتلة أو مقتولين. هذا ما تجمع عليه التقارير التي تسرد تاريخ الصراع في أوغندا، وكونه على رأس المطلوبين الدوليين ليس من باب الصدفة أو المؤامرة.



«ضريبة الشهرة»


لقد حقق فيلم «كوني 2012» نجاحاً باهراً، ولم يجعل من جوزيف كوني فقط نجماً، وإنما أيضاً من مخرجه، جايسون راسل (الصورة)، الذي قدّم صورة عن نفسه بالفيلم على أنه شخص مثالي يسعى كي يكون قدوة حسنة لابنه الصغير «كي يحيا في مستقبل أفضل»، لكنه غفل أن للشهرة ضريبة. فقد دفع هذا الفيلم الى تسليط الأضواء على حياته الخاصة و«رذائلها»، وخصوصاً أنه كان مبادراً منذ البداية إلى زجّها بالأضواء.
وذكرت شبكة «أن بي سي» أن الشرطة في مدينة سان دييغو احتجزت الأسبوع الماضي راسل (33 عاماً) بعدما وجدته شبه عار، ويقوم بحركات بذيئة في مكان عام. وأشارت الى أن الشرطة اعتقلته بملابسه الداخلية وهو يمارس العادة السرية في مكان عام ويخرب السيارات.
ونقلت الشرطة راسل بعدها إلى المستشفى. وأصدرت زوجة راسل، دانيكا، بياناً قالت فيه إن زوجها كان يعاني من انهيار عاطفي. ونفت أن يكون يعاني من مشاكل إدمان أو كحول.