إسطنبول | تعيد الأزمة العراقية ــ التركية المستفحلة أخيراً بين رئيسَي الحكومة نوري المالكي ورجب طيب أردوغان، فتح ملفات قديمة، رغم مساعي البعض في تركيا إلى حصرها بشخص المالكي تحديداً، على خلفية «مساعيه إلى تعزيز سلطاته على حساب شركائه وبقية المذاهب العراقية»، وفق الاتهام التركي له. ولا تزال التهم المتبادلة بين الرجلين هي نفسها: يعتقد أردوغان أن المالكي يحكم بمنطق مذهبي ويثير شركاءه في الحكم، أي العرب السنّة والأكراد، وهو ما يردّ عليه المالكي بالتشديد على أنّ أردوغان وحكومته يتدخّلان بنحو سافر في الشؤون العراقية الداخلية، ومن منطلق مذهبي أيضاً. وباستعادة سريعة لسياسة تركيا _ العدالة والتنمية إزاء العراق، يلاحظ المراقب أن أنقرة حملت هماً لم يتقدم عليه آخر، هو التشديد على أن دبلوماسيتها مستقلة عن الصراع السني _ الشيعي المستعر في المنطقة. ولترجمة ذلك، أصرّ أردوغان على أن يزور المرجع الشيعي الأبرز علي السيستاني في النجف في آذار من العام الماضي، حيث لدى تركيا قنصلية عامة. والنقطة التي يتفق عليها عدد كبير من المراقبين الأتراك، هي أن التاريخ المفصلي كان الانتخابات العراقية التشريعية في آذار 2010، حين دعمت أنقرة خصوم المالكي وائتلافه «دولة القانون»، وأصرّت على أحقية «القائمة العراقية» بقيادة إياد علاوي في تأليف الحكومة الجديدة. حينها بدأت الأزمة الكبيرة؛ إذ إنه مع تولّي المالكي رئاسة حكومة جديدة، فإنه «لم يلتزم العهد الذي قطعه للقيادة التركية بمشاركة الحكم مع القائمة العراقية، وبدل ذلك سعى، ولا يزال، إلى تركيز كافة السلطات بين أيديه»، بدليل حصره وزارات الدفاع والداخلية بشخصه، بحسب مصادر تركية رسمية. ورغم كل ذلك، ظلّت تركيا، على الأقل إعلامياً، تحاول تبنّي شعار تنظيم مؤتمر وطني للمصالحة ولحلّ أزمة نائب الرئيس طارق الهاشمي. من هنا، يرى مصدر في وزارة الخارجية التركية، في حديث مع «الأخبار»، أنّ «قيام المالكي بالنكث بوعوده لشركائه في الحكم، من شأنه زيادة حدة الانقسام المذهبي، وهو ما يستحيل أن تتجاهله تركيا؛ لكون ذلك يهدد بإثارة صراعات طائفية في المنطقة برمّتها».
لكن المصدر التركي يعترف بأن الشق الداخلي العراقي من الأزمة المستفحلة بين بغداد وأنقرة، لا يكفي لشرح كافة أوجه الأزمة، من دون استحضار الخلاف الكبير بين الدولتين حيال الملف السوري. ووفق الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط لدى تلفزيون «خبرتورك»، سيدة كيران، في حديث مع «الأخبار»، تخلق الأزمة السورية المشكلة الكبرى بين البلدين، وخصوصاً أن «الوقائع على الأرض في المنطقة تصعِّب على أنقرة مسألة الثبات على أنها غير معنية بالنزاع الشيعي _ السني، بدليل أن المالكي، شأنه شأن عدد كثير من شيعة المنطقة، يرى أنه في حال وصول السنة العرب إلى الحكم في دمشق، فإنّ ذلك سيتبعه وصول العرب السنة إلى الحكم في بغداد أيضاً». إضافة إلى ذلك، «تخشى أنقرة أن يركّز المالكي كل السلطات بيديه، وهو ما من شأنه أن يوحّد السنة العرب مع الأكراد ضد الشيعة، على خلفية ملفات عديدة، كمسألة تقاسم العائدات النفطية»، علماً بأن تركيا لا تزال الشريك الاقتصادي الثاني للعراق بعد ألمانيا، مع تبادل تجاري يناهز 12 مليار دولار سنوياً، نصف هذا المبلغ يجري تبادله مع الإقليم الكردي.
في المحصلة، مهما تعدّدت المعطيات، تبقَ النتيجة واحدة بحسب الكاتب التركي المعروف في صحيفة «ملييت» المعارِضة، سميح إيديز، الذي يختصر الموضوع بأنّ تركيا خسرت ورقتها الأبرز، وهي «القوة الناعمة»، أي القدرة على التحدث مع جميع الأطراف في العالم العربي. ويكشف إيديز أن الدبلوماسيين الغربيين العاملين في أنقرة حالياً، باتوا يتناولون تركيا في تقاريرهم إلى عواصمهم بالاشارة إلى أنها «منحازة إلى المعسكر السني»، وأنها «فقدت قدرتها على أن تكون عنصراً محايداً مطلوباً للتخفيف من حدة النزاع السني _ الشيعي في المنطقة».
كلام لا يوافق عليه بطبيعة الحال بولنت أراس، وهو أبرز مستشاري وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو، ورئيس «مركز الدراسات الاستراتيجية» التابع لوزارة الخارجية. وفي مقابلة معه نشرتها صحيفة «بوغون» التركية، أمس، ينفي أراس أن تكون تركيا قد انحازت إلى «المعسكر السني» في الصراع المهيمن على المنطقة حالياً. وذكّر أراس كيف أن بلاده حاولت منذ البداية الحدّ من التوتر الشيعي _ السني وحصره في إطاره الدبلوماسي، حيث لم يكن ممكناً حلّه، لذلك مثلاً «زار أردوغان المساجد الشيعية العراقية في كربلاء لبعث رسالة أنّه هناك ليس كسنّي ولا كشيعي، بل كمسلم». ويشير أراس إلى أنّ النتيجة كانت ما جاء به استطلاع لمعهد «غالوب»، الذي أظهر أنّ شيعة العراق يملكون نظرة ايجابية جداً إزاء تركيا، «وهو ما يكشف عن الدور البنّاء الذي أدّته تركيا في المنطقة» على حد تعبيره. ورداً على سؤال عن مدى مساهمة زيارة نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي لتركيا في ارتفاع وتيرة الخلاف التركي _ العراقي المستجد، أجاب أراس بأن «المشكلة لا تكمن بين المالكي وتركيا، بل بين المالكي والهاشمي، وأزمة المالكي هي أنه يُسقط مشكلته مع الهاشمي على الدول التي تستقبله، وبالتالي، حين تُحَلّ مشكلة المالكي مع الهاشمي، تزول الأزمة مع تركيا». وأعرب كبير مستشاري داوود أوغلو عن مخاوف بلاده من تقسيم العراق واشتداد الأزمة المذهبية فيه، مستذكراً الوضع السائد قبل 2005، أي قبل مشاركة العرب السنة في العملية السياسية، لذلك يشدد الرجل على أهمية إبقاء العرب السنة داخل العملية السياسية الحالية، «وهو الهم الذي لا يشاركنا فيه المالكي بسبب حصر همّه بالحفاظ على سلطاته واحتكارها».