تصاعدت الأزمة الداخلية في العراق إلى حدّ باتت تهدد، على ما يبدو، بعودة الاقتتال الأهلي إلى كردستان، وخصوصاً إن لم تنجح «وساطة كبيرة» تجري حالياً برعاية أميركية لإصلاح ذات البين بين مسعود البرزاني ونوري المالكي. مصادر قيادية في الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه البرزاني، تتهم إيران بأنها تمارس ضغوطاً ضخمة، معنوية (على المستوى السياسي) وميدانية، سواء اقتصادياً أو أمنياً، لدفع البرزاني إلى التخلي عن مواقفه المتصلبة وإعادة مد الجسور مع المالكي. تقول إن «رسالة التهديد الأخيرة نقلها (السيد مقتدى) الصدر، في خلال زيارته لأربيل»، موضحة أنه «صحيح أن العنوان كان مبادرة يحملها الصدر مؤلفة من ١٨ نقطة، لكن جوهر الزيارة كانت التأكيد على أن المالكي خط أحمر ولا يمكن أن يسمحوا لأحد بأن يؤذيه بأي طريقة كانت، وأن على الأكراد العمل على التهدئة وعدم اللعب بالنار، وألا يسيئوا إلى العلاقات الكردية الإيرانية».
وتضيف المصادر نفسها «لم يكتف الإيرانيون بذلك، بل حرّضوا الأحزاب الإسلامية الكردية علينا. كذلك فعلوا مع الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو ما دفع البرزاني إلى الخروج بتصريح يعلن فيه أن لا عودة إلى الاقتتال الكردي، وأنه في حال حصل ذلك فهو سيغادر كردستان إلى غير رجعة. مبادرة نشيروان مصطفى بزيارة أربيل رداً على زيارة كان البرزاني قد قام بها للسليمانية مبادرة طيبة أتت تأكيداً لرفض عودة الحرب الأهلية». وتتابع أن «الإيرانيين، إلى جانب ألاعيبهم الأمنية، يلعبون باقتصاد كردستان، بطرق عدة، في مقدمها البورصة، ما أدى إلى شلل الحركة الاقتصادية، ولا نخفي سراً أننا نخشى الغضب الإيراني أضعاف ما نخشى الغضب التركي».
مصادر إيرانية وثيقة الاطلاع تؤكد رسالة التهديد للبرزاني، مشيرة إلى أن «مجرد توجه الصدر إلى أربيل مباشرة من طهران يحمل في طيّاته معاني خاصة، لعل في مقدمها رسالة إلى الولايات المتحدة وتركيا بأن وحدها شخصيات، مثل مقتدى الصدر، لها الحق في التدخل في الشأن العراقي، لا بايدن ولا أوغلو»، في إشارة إلى نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن ووزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو.
وتكشف هذه المصادر عن اعتقال شبكة تجسس مؤلفة من 15 شخصاً من جنسيات مختلفة في إيران، اعترفوا بأنهم يتبعون لمحطة تجسّس إسرائيلية كبيرة في أربيل تستهدف ضرب المنشآت الإيرانية واغتيال العلماء والقيام بأعمال تخريب وجمع معلومات، مشيرة إلى أن هذا زاد من الدافع إلى توجيه رسالة التهديد تلك.
في المقابل، فإن أوساط الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني، وإن كانت أكثر تخوفاً من فتنة كردية، إلا أنها تعزو أسبابها إلى الاختلافات الجذرية بين الطالباني والبرزاني بشأن مجموعة من الملفات، أولها الانفصال، يليه العلاقة بالمالكي، والملف السوري والارتباطات الخارجية والعلاقة مع حزب العمال الكردستاني.
في موضوع الانفصال، ترى هذه الأوساط أن خطوة كهذه ستكون تركيا المستفيد الأول منها، ذلك أن نفط كردستان كله سيمر عبر أراضيها وستكون امتداداً للاقتصاد التركي. غير أن الدولة الوليدة ستكون لقمة سائغة في فم أنقرة، ولن ترضى لا بغداد ولا إيران ولا سوريا بالدفاع عنها أو دعمها. وبالنسبة إلى سوريا، واضح أن الطالباني يتبنّى موقف المالكي نفسه، فيما يعمل البرزاني ضد الرئيس بشار الأسد. ويبدو واضحاً أن الطالباني لديه علاقات خاصة بإيران انعكست على علاقته بالمالكي، فيما للبرزاني علاقات خاصة بتركيا انعكست بدورها على علاقته برئيس الوزراء العراقي. ويظهر أن الطالباني لا يزال داعماً لحزب العمال، خلافاً للبرزاني الذي لا يزال يحاربه. ولعل آخر مواجهة حصلت في المناطق الكردية في سوريا تمثّل دليلاً على ذلك، حيث قضى حزب «العمال» على كل محاولات البرزاني إثارة انتفاضة كردية ضد الأسد، بل عمل على إفشال مؤتمر للمعارضة الكردية السورية عقد الأسبوع الماضي في أربيل، وذلك عندما أرسل ممثلين عن 13 منظمة وحزب من أتباعه للمشاركة، سرعان ما انسحبوا من القاعة عقب افتتاح المؤتمر وإدلاء البرزاني بكلمة فيه.
ومع ذلك، فإن المصادر القيادية في الحزب الديموقراطي تستبعد أن يتطور الوضع باتجاه هذا السيناريو الدامي، مشيرة إلى عوامل ثلاثة: الأول، أن دفع البرزاني باتجاه الانفصال لم يكن خيار الرغبة بل خيار الضرورة، مع رفض بغداد تحقيق أي من المطالب الكردية. الثاني، الضغوط الإيرانية الهائلة التي لا شك في أنها أدت إلى كبح قيادة أربيل. صحيح أن التصعيد الإعلامي لا يزال مستمراً، ولكن ما يجري داخل الغرف المغلقة أمر آخر. والثالث، وصول وفد أميركي رفيع المستوى يعمل على التوصل إلى تسوية ترضي الجميع.
وتكشف المصادر نفسها عن اتجاه لعقد مؤتمر مصالحة كبير برئاسة الطالباني ينتهي إلى تسوية يقدم فيها كل من نوري المالكي ومسعود البرزاني تنازلات يضطر فيها الأول إلى قبول بعض ما سبق أن رفضه، فيما يضطر الثاني إلى التخلي، ولو مؤقتاً، عن بعض مطالبه، على أن يضطر في ختامه إياد علاوي إلى الانسحاب من الحياة السياسية، حيث سيكون قد خسر جميع أوراقه. وتقول المصادر الإيرانية إن شرط أي تسوية استبدال «العراقية» بكيان أو كيانات أخرى وظهور معادلة جديدة تحكم علاقة القوى السياسية العراقية.
مصادر الحزب الديموقراطي تؤكد أن المطلبين الأساسيين للبرزاني، اللذين لن يرضى بأي تسوية من دونهما، هما: إصدار قانون النفط والغاز وتخصيص موازنة خاصة للبشمركة بصفتها حرس حدود، تصرف من موازنة وزارة الدفاع العراقية. كل المطالب الأخرى قابلة للتأجيل، من ترسيم الحدود وحسم مصير الأراضي المتنازع عليها وكركوك وإيرادات الدولة (الـ١٧ في المئة من عائدات النفط العراقي التي تتلقاهما كردستان).
وتؤكد هذه المصادر أن الأكراد جلّ ما يريدونه هو إصدار قانون النفط والغاز، وفي حال حصل ذلك فهم لا يريدون أي انفصال. أما في حال لم يحصل ذلك، فإن البرزاني كان واضحاً: لقد أمهل الحكومة حتى شهر أيار لكي يصدر البرلمان هذا القانون، وإلا فإن الأكراد «سيستخرجون النفط رغماً عن الحكومة، وسيسيرون نحو انفصال كلي عن بغداد». وتشير المصادر إلى أن «العلاقة الآن مع بغداد أسوأ من الانفصال. تنكّر كلي لجميع حقوق الأكراد، وتصفية لقياداتهم، واضطهاد لهم. ألم يحرقوا ستة مراكز تابعة للاتحاد الوطني في الوسط والجنوب؟».
ولا يخفى على أحد أن الأرض في كردستان خصبة للاقتتال الأهلي. العقود الماضية خير شاهد، على الأقل منذ عام ١٩٦٦، تاريخ انفصال جلال الطالباني وإبراهيم أحمد عن الحزب الديموقراطي الذي أسسه هذا الأخير بعدما سيطر عليه مصطفى البرزاني، ما دفعهما إلى تأسيس الحزب الديموقراطي الجديد. مصالحة ثم انفصال ثان عام 1976 أسس في خلاله الطالباني وأحمد الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي خاض وغريمه الديموقراطي حروباً طاحنة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم تهدأ إلا مع الغزو الأميركي للعراق في عام ٢٠٠٣.
هدوء فرضه الاحتلال الذي مثّل فرصة لا تعوّض للأكراد من أجل تحقيق مطالبهم التاريخية، لكنه لم ينجح يوماً في توحيدهم. فرغم الاتفاق بين الجانبين على توحيد الإدارتين اللتين أنشئتا في عام ١٩٩١ عندما فرض الحظر الجوي على شمال العراق عقب غزو الكويت، اقتصرت هذه الوحدة على مستوى القمة. على الأقل، لا تزال وزارات الدفاع والداخلية والمال غير موحدة إلا شكلاً. فإن كان الوزير من أربيل لا نفوذ له في السليمانية حيث السيطرة تكون لأحد مساعديه ممّن عيّنهم الاتحاد الوطني، والعكس صحيح. حتى على المستوى الأمني، هناك جهاز استخبارات، الأول يدعى «باراستن» ويقوده مسرور مسعود البرزاني، والآخر اسمه «زنياره» ويقوده أحد أقارب جلال الطالباني. وتسيطر عائلتا البرزاني والطالباني كل على المنطقة الخاصة بها بشكل يحاكي سيطرة صدام حسين وزمرته على العراق أيام النظام السابق. بل أكثر من ذلك، تمنّن هاتان العائلتان الأكراد بأنهما جلبتا لهم دولة، وإن بصورة حكم ذاتي، وهو ما لم يحققه حزب العمال الكردستاني في عزّه. وفي مقابل ذلك، تسيطر العائلتان على مقدرات الإقليم وثرواته والحركة التجارية فيه، بحيث تمتلكان كل المشاريع الكبرى وبينها النفط الذي يهيمن عليه البرزانيون عن طريق اشتي هرامي الذي يتولى وزارة نفط الإقليم منذ ثماني سنوات متواصلة.
حتى داخل الإدارة الواحدة، فإن الأوضاع لا تبدو مشجعة. في أربيل صراع مرير بين ابن مسعود وابن عمه نيجرفان البرزاني ابن الشقيق الأكبر لمسعود، الذي كان يفترض أن يرث زعامة مصطفى البرزاني لولا أنه توفي شاباً، ما جعل هذه الزعامة تؤول إلى مسعود. ويعتبر نيجرفان، الذي يشغل حالياً منصب رئيس حكومة الإقليم، أن الزعامة يجب أن تؤول إليه بعد وفاة عمّه مسعود، فيما يرى مسرور أنه ابن الزعيم وبالتالي الأحق بوراثته. ويجمع المراقبون على أن الحزب الديموقراطي سينشطر إلى حزبين مع وفاة مسعود، أحد لا يعلم شكل العلاقة التي ستجمع بينهما.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الاتحاد الوطني الذي عانى خسارة كبيرة مع انسحاب أحد أبرز مؤسسيه، نيشيروان مصطفى، وتأسيسه حزب التغيير. ويجمع العالمون بكواليس هذا الحزب أنه عبارة عن اتحادات، يسيطر على كل منها أحد أقارب الطالباني الذي لا يزال الجامع الوحيد في ما بينها. ويتوقع هؤلاء سيناريو من اثنين، في حال وفاة هذا الأخير: إما عودة نيشيروان مصطفى إلى صفوفه وإعادة توحيده باعتباره الوحيد الذي يحظى بالمشروعية التاريخية للقيام بهذه المهمة، أو أن تلتحق قواعد الاتحاد الوطني به في حزب التغيير.



أربيل وإكسون موبيل

لعل ما يعزز استبعاد تحقق فرضية الانفصال النتائج المخيّبة للآمال التي حققتها زيارة البرزاني لواشنطن. فالمعلومات الواردة من أربيل والسليمانية تقول إن الرئيس الأميركي باراك أوباما رفض في بداية الأمر تحديد موعد للزعيم الكردي، وهو ما دفع السفارة الأميركية في بغداد إلى أن تنقل إليه الأجوبة على المطالب الثلاثة التي حملها معه إلى العاصمة الأميركية بعد اتصالات أجراها الطالباني بالبيت الأبيض: رأي أميركا في الانفصال، وإسقاط نوري المالكي، وعدم بيع طائرات إف ١٦ إلى بغداد خشية استخدامها ضد الأكراد. كان الجواب، بحسب مصادر وثيقة الاطلاع، رفضاً للمطالب الثالثة.
وربما أهم ما قام به البرزاني خلال زيارته الأميركية إقناع شركة «إكسون موبيل» بالالتزام بعقد سبق أن وقّعته مع أربيل ثم أوقفت العمل به بعدما هدّدتها حكومة بغداد بإلغاء عقد أبرمته معها لاستثمار حقول نفط في البصرة.