باريس | عندما خرج فرنسوا هولاند منتصراً في الانتخابات الداخلية بين أقطاب الحزب الاشتراكي، في مطلع الخريف الماضي، نقل عدد من المقربين عن نيكولا ساركوزي تعليقاً ساخراً وصف فيه هولاند بأنه «رخو ومتردّد ورمادي»، وقالوا إن الرئيس المنتهية صلاحيته تنفس الصعداء قائلاً: سأطحنه (أي هولاند) بمنتهى السهولة خلال المناظرة! تلك الجملة أعادت إلى أذهان البعض، في معسكر اليمين الفرنسي، ردة فعل الرئيس جيسكار ديستان، في انتخابات الرئاسة عام 1981، حين تفاءل بتزكية الحزب الاشتراكي فرنسوا ميتران عوض ميشال روكار مرشحاً للرئاسة.
توقّع جيسكار ديستان بدوره أن تكون «المناظرة» فرصة سهلة لطحن ميتران، ووصل به الأمر إلى حد مطالبة أحزاب اليمين الموالية له بالتركيز فقط على الانتخابات التشريعية. لكن، خلال المناظرة، فاجأ ميتران الجميع، وزعزع الهيمنة التقليدية للرئيس المنتهية ولايته في المناظرات الانتخابية، حيث ردّ على أسئلة جيسكار الهادفة إلى امتحان معارفه وأهليته للمنصب الرئيس، قائلاً: ما الذي يعطيك شرعية امتحاني؟ أنا لست تلميذك!
وكان لافتاً أن نيكولا ساركوزي كرّر هذه الجملة عدة مرات خلال مناظرته مع فرنسوا هولاند، أول من أمس. اضطر نزيل الإليزيه المنتهية صلاحياته إلى الرد على هولاند قائلاً: «لست تلميذك ولا أقبل أن تمتحنني»، وذلك للإفلات من سيل الأسئلة الدقيقة الذي سلّطه عليه المرشح الاشتراكي، لدحض أطروحاته، واحدة تلو أخرى، من خلال لغة الأرقام والإحصائيات الدقيقة، سواء في ما يتعلق بالاقتصاد أو الأزمة المالية أو الإنفاق العام أو المهاجرين.
لم ينتبه ساركوزي إلى أنه حين استعار جملة ميتران الشهيرة سمح لهولاند بأن يقلب جدلية الهيمنة المبدئية، التي عادة ما تكون في صالح الرئيس المنتهية صلاحياته. وأجمع المحلّلون على أن هولاند خرج منتصراً من المناظرة، لأنه «استطاع أن يتقمص الثوب الرئاسي أكثر من الرئيس المنتهية صلاحياته! سواء من حيث الكاريزما والنبرة الواثقة التي تنم عن وضوح الرؤية والتحكم في مختلف الملفات، أو لجهة الترفع عن الشطط اللفظي». أما ساركوزي فقد ظهر في موقع دفاعي، حيث حاصره هولاند بالأسئلة المدعمة بالأرقام حول برنامجه وحصيلة ولايته الرئاسية، وأحرجه يتسليط الضوء على التقلب الدائم في مواقفه، الشيء الذي أفقد نزيل الإليزيه أعصابه، فانساق إلى تجاوزات لا تتوافق مع الوقار الرئاسي، واصفاً هولاند بـ«الكاذب» و«المزوّر» و«الجبان»!
اعتمد هولاند استراتيجية النأي بالنفس، متفادياً الانسياق وراء لهجة ساركوزي وشططه اللفظي. بذلك استطاع هولاند أن يبرهن أنه يمتلك كل مؤهلات المنصب الرئاسي، من حيث الوقار وعلو الرؤية والترفع عن الشطط. وهو أمر فاجأ حتى المقربين منه، حيث أشاد أقطاب الحزب الاشتراكي بالسهولة الفائقة التي أبداها مرشحهم في تقمص الثوب الرئاسي. ووصل الأمر بمرشح «جبهة اليسار» جان لوك ميلانشون، الذي كان في مقدمة متنقدي هولاند بتهمة أنه ممثل «اليسار الرخو»، إلى حد القول بأن «شيئاً من روح فرنسوا ميتران قد تقمّصه». وبدت الدهشة حتى على مطلّقة هولاند، مرشحة الرئاسة السابقة، سيغولين روايال، أثناء متابعتها «المناظرة»، حيث اعترفت بأن «التحوّل الرئاسي» في شخصية هولاند قد بهرها، بالرغم من أنها تقاسمت حياته طوال ربع قرن!
تفوق هولاند في «المناظرة» سيعمّق الفارق بينه وبين ساركوزي. وكان آخر استطلاعين نُشرا أول من أمس، قبل المناظرة، قد كشفا أن المرشح الاشتراكي لا يزال متقدماً على منافسه ساركوزي بـ5 إلى 6 في المائة (53,5 في المائة مقابل 46,5 في المائة حسب معهد الاستطلاعات BVA / 53 في المائة مقابل 47 في المائة وفق معهد IFOP). وبالرغم من أن ساركوزي ركّز طوال حملة الجولة الثانية على مغازلة اليمين المتطرف، فيما زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان طلبت رسمياً من أنصارها، أول من أمس، اعتماد استراتيجية «الاقتراع الأبيض»، أي عدم تأييد أي مرشح في الجولة الثانية. واعتبر هذا الموقف معادياً لساركوزي، لأنه يحتاج إلى 80 في المائة من أصوات اليمين المتطرف لتدارك الهوة التي تفصله عن هولاند.
حيال الموقف المعادي الذي عبّرت عنه زعيمة اليمين المتطرف، تركّزت الأنظار أكثر على تيار الوسط، الذي وعد زعيمه فرنسوا بايرو بالإفصاح عن موقفه بعد المناظرة. ولم يخيب بايرو التوقعات، حيث أعلن أمس أنه سيقترع لهولاند في الجولة الثانية (راجع الكادر أدناه).
هذه الضربات الموجعة المتتالية تعني أن ساركوزي فقد أي فرصة فعلية في قلب موازين في اقتراع الأحد القادم، فتأييد الوسط سيمنح هولاند في الجولة الثانية مخزوناً جديداً من الأصوات يقدّر بـ3 ملايين صوت، يضاف إلى أصوات اليسار الراديكالي (نحو 4,5 ملايين ناخب) وأنصار البيئة (قرابة مليون ناخب)، فضلاً عن الناخبين الاشتراكيين الذين اقترعوا له منذ الدورة الأولى (10,2 مليون ناخب)، مما يخوّله الحصول على قرابة 18 مليون صوت. أما نيكولا ساركوزي، الذي نال في الجولة الأولى 9,7 ملايين صوت، فلم تفلح محاولاته المتكررة لاستمالة أصوات اليمين المتطرف المقدرة بنحو 6,4 ملايين، فقد بيّنت الاستطلاعات الأخيرة، أول من أمس، أن 46 في المائة فقط من هؤلاء يعتزمون التصويت لساركوزي في الجولة الثانية. ويُرتقب أن تشهد هذه النسبة انخفاضاً حاداً بعدما دعت مارين لوبان أنصارها إلى «الاقتراع الأبيض».
يبقي أمام ساركوزي أمل ضئيل يتمثل في اجتذاب فئات الناخبين الذين امتنعوا عن التصويت في الجولة الأولى (قرابة 9 ملايين صوت). لكن الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن التوقعات بخصوص نسبة المشاركة لا تتعدى 82 بالمائة، مقابل 79,7 في المائة في الدورة الأولى. أي أن مخزون الممتنعين الذين سيدخلون الحلبة في الدورة الثانية لا يتعدى مليون صوت، وهي نسبة ضئيلة لن يكون لها تأثير حاسم في موازين القوى الانتخابية.



بايرو: الرئيس أخلّ بقيم الجمهورية الفرنسية


لم يكتف زعيم تيار الوسط، فرنسوا بايرو (الصورة)، بإعلان تأييده رسمياً، أمس، لفرنسوا هولاند في معترك الجولة الرئاسية الثانية، بل حمل بشدة على منزلقات الساركوزية، قائلا إن «ساركوزي انساق منذ ظهور نتائج الدورة الأولى نحو سباق محموم وراء أصوات اليمين المتطرف، واتسم ذلك بهوس بالمهاجرين، وهوس بالحدود، ووصل الأمر إلى حد استعمال إشارة مرورية في احد أشرطة دعايته الانتخابية كُتبت عليها كلمة جمارك بالفرنسية وبالعربية»! واعتبر بايرو «هذا الخط العنيف الذي انتهجه ساركوزي صادماً لقيم الجمهورية الفرنسية، ويتنافى مع المبادئ التي تشكل قواسم مشتركة بيننا، وهي ليست مبادئ الوسط فحسب، بل أيضا مبادئ الديغوليين واليمين الجمهوري (المرجعية الجمهورية في فرنسا، بخلاف المفهوم الأنغلوساكسوني، تعني اليمين المعتدل والعلماني).
وخلص بايرو إلى القول: «بالنسبة إلي، الأهم في مثل هذه الظروف هو تحديد ما الذي خدم مصالح فرنسا وقيمها؟ لذا، لا يمكن أن اكتفي بـ«الاقتراع الأبيض» (كما فعل في الجولة الثانية من انتخابات 2007) ، لأن ذلك يعني التردد والإحجام عن اتخاذا القرار الصائب. والخيار الصائب اليوم يتمثل في الاقتراع لفرنسوا هولاند، وهذا هو الخيار الذي اتخذته».