غادرت طهران محادثات إسطنبول، وفي يدها ثلاثة إنجازات سعت إلى تكريسها في اجتماعات بغداد: اعتراف غربي صريح بحق إيران في امتلاك برنامج نووي سلمي، مع ما يتضمنه ذلك من حق في امتلاك المعرفة والمنشآت والحق في التخصيب، من دون تحديد إلى أي نسبة. تعهد بترك التفاصيل المتعلقة بهذا البرنامج لعناية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بمعنى سحبها عملياً من مجلس الأمن ومن العناية المباشرة للدول الكبرى. ورسالة من وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون إلى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد جليلي، تؤكد فيها «استعدادها لمناقشة كل ما تطرحه إيران من أفكار ومقترحات في الجولات المقبلة بشأن صيغ التعاون بين الطرفين».
بناءً على ما تقدم، وكان «أساسياً في تجسير الثقة بين الطرفين»، بدأ الحديث عن تفاهمات متوقعة في بغداد، عززتها رسائل أميركية تؤكد اعتراف إدارة باراك أوباما بالحقوق الإيرانية تلك، مع تلميحات إلى انخراط أميركي أكبر بالحوار مع طهران في حال فوز الرئيس الحالي بولاية جديدة في انتخابات نهاية العام.
الأكيد بالنسبة إلى إيران كان، على ما تفيد مصادر إيرانية وثيقة الاطلاع، أن «الولايات المتحدة والدول الأوروبية ذهبت إلى بغداد وهدفها الأدنى انتزاع أي اتفاق يمنع إعلان الفشل. كنا ندرك أن الطرف الغربي لم يأت ليقدم تنازلات. كنا نأمل، بناءً على ما حصل في إسطنبول وما بعده، أن يكون الغرب عاد إلى صوابه وقرر التخلي عن سياسة ازدواجية المعايير. لكن تقديراتنا أنه لم يصل إلى حد تغيير مواقفه وأن كل ما يريده اتفاق، أي اتفاق، مع ربط للنزاعات حتى آخر العام».
وتوضح المصادر نفسها أن «الخريطة، على ما قرأناها، كانت على الشكل الآتي: هناك الأوروبيون، الخائفون من اندلاع حرب لن يتحملوا تداعياتها، في ظل حال الإفلاس الاقتصادي التي يمرون فيها، وهم يريدون مخرجاً سريعاً ينهي الحظر النفطي الذي أكرههم الأميركي والإسرائيلي عليه، علماً بأنهم غير قادرين على تحمل أعبائه لفترة طويلة. وهناك الطرف الأميركي الذي بدا خلال المحادثات غير صادق في رسائله السابقة. كل ما يريده هو شراء الوقت، يريد جولات من التفاوض لأجل التفاوض بما يسمح له من كبح إسرائيل ومنعها من إعلان فشل الحوار مع إيران وبالتالي امتلاك حجة الخيار العسكري البديل، وفي الوقت نفسه أن تتمكن الإدارة الأميركية من القول للعالم وللأميركيين إنها لا تزال تضغط على الإيرانيين وتسيطر على برنامجهم النووي». وتضيف: «بالنسبة إلينا، كانت الأمور جد بسيطة. عدم إفشال جولة بغداد كان مطلب الحد الأدنى بالنسبة إلينا أيضاً. الوقت يجري لمصلحتنا، وكل إرجاء في حسم الملفات يعني وقتاً إضافياً لتطوير برنامجنا النووي. وعدم إعلان الفشل بحد ذاته ضمانة، تضاف إلى التأكيدات الغربية، بأن لا مغامرة عسكرية وشيكة ضد الجمهورية الإسلامية، وإخفاق لإسرائيل التي تبدو الطرف الوحيد الذي يرغب في تفجير المحادثات والدفع نحو هذا السيناريو».
وتشير المصادر نفسها إلى أن ذلك كان واضحاً في خلال محادثات بغداد، حيث «النقاشات كلها كانت تدور بين الإيرانيين والألمان والروس والصينيين. الصمت المطبق كان السمة التي ميزت الأميركيين بالدرجة الأولى، ومن بعدهم البريطانيون والفرنسيون. بدا واضحاً أن مهمة الموفد الأميركي مراقبة المحادثات بما يضمن عدم تفجرها وعدم تحقيق الإيراني لأي مكسب جديد وألا يدخل أي طرف أوروبي في صفقة ثنائية مع طهران». وتضيف: «في المقابل، سعى جليلي إلى الحؤول دون تحقيق إسرائيل لرغبتها في تفجير المحادثات، ومنع الطرف الأوروبي من انتزاع أي تنازلات أو فرض المزيد من العقوبات، والحؤول دون انتزاع الأميركي لزمام المبادرة مجدداً، بعدما فقدها في اجتماعات إسطنبول».
وبناءً عليه، تكون واشنطن وطهران الرابحين الأكبرين من هذه الجولة، إن لم يُحتسب فشل إيران في تحقيق أحد أبرز أهدافها من محادثات بغداد، التي أرادتها بداية لإخراج الملف النووي من مجلس الأمن إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ألم يؤكد وزير خارجية إيران علي أكبر صالحي أكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية أن «محادثات بغداد ستكون بداية العد العكسي لحل مشكلة الملف النووي الإيراني».
المعلومات الواردة من طهران تفيد بأن الأوروبيين، الذين سعوا إلى تنازلات من إيران تحت وطأة الحصار، قدموا مقترحاً شفهياً في بغداد كرسوا من خلالها مكاسب إيران في إسطنبول، قوامه أربعة بنود:
ــ إغلاق منشأة فوردو النووية القريبة من قم، علماً بأن لا شيء يميزها عن المنشآت الأخرى سوى أنها مبنية في باطن الجبل، ما يحول دون تدميرها بالقصف الجوي.
ــ تعهد إيران منع التخصيب إلى نسبة 20 في المئة، ما يكرس اعتراف «5 + 1» بحق إيران في مبدأ التخصيب.
ــ إعلان طهران القبول بتوجه مفتشين لزيارة معسكر بارشين لصناعة الذخائر شرقي طهران، الذي تدعي الاستخبارات الأميركية وجود شبهات حوله.
ــ توقيع طهران البروتوكول الإضافي (الذي رفضه مجلس الشورى الإسلامي بالطريقة نفسها التي سبق للكونغرس الأميركي أن رفضه).
في المقابل، قدم الإيرانيون، بحسب المعلومات نفسها، مقترحاً خطياً يقوم على ثلاثة محاور:
1ــ أمن الطاقة والتعاون الاقتصادي
2ــ الأمن الإقليمي والملفات الساخنة
3 ــ أمن طرق المواصلات والأمن العالمي
العنوان العام للمقترح الإيراني محوره أن عصر الحوار تحت سقف الضغوط قد انتهى في إسطنبول وحان وقت الحوار في إطار التعاون. وقد عرضت طهران، في مقترحها هذا، مناقشة الوضعين البحريني والسوري، ومسألة نزع أسلحة الدمار الشامل من الشرق الأوسط، وتحديداً من الكيان الصهيوني. كذلك دعت إلى اغتنام الفرصة واعتبار فتويي المرشد علي خامنئي في تحريم صناعة السلاح النووي واستخدامه وثيقة وفرصة تاريخية على الجميع أن يحذوا حذوها.
المصادر الوثيقة الاطلاع تقول إن الطرف الغربي، بالرغم من ترحيبه بفتويي خامنئي، إلا أنه اعتبرهما خطوة مفيدة كبادرة حسن نية إيرانية، لا وثيقة يجب تقليدها. وتضيف أنه رفض مناقشة البحرين وسوريا، رغم تأكيد طهران استعدادها لحوار مرن ومنفتح. كذلك رفض الاقتراب من المشروع النووي الإسرائيلي.
في المقابل، تضيف المصادر نفسها: «لم نقبل أن يفرض علينا الغربيون أي شيء خارج إطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أبلغناهم أن كل ما جاء في الطرح الأوروبي مرجعيته تلك الوكالة على ما قبلت به مجموعة 5 + 1 في إسطنبول، وخاصة أننا انتهينا للتو من استقبال (رئيس هذه الوكالة يوكيا) أمانو الذي تفاهمنا معه على كل شيء، فلماذا مناقشة هذه البنود معكم؟ دعونا نناقش الملفات الثلاثة الأخرى. إن كنتم تثقون بأمانو، وهو من رجالاتكم، فلماذا تخافون؟ لديه مفتشون وكاميرات تراقب منشآتنا 24 ساعة في اليوم. دعونا نناقش المواضيع المتفرعة من النووي: جيوبوليتيك وأمن واقتصاد. ألا تقولون إن الحل سياسي ويأتي بالحوار، وإنه عندما يُسد هذا الطريق فلا مناص من الحل العسكري. لماذا لا تستخدمون الحوار، وخصوصاً أن أمانو اعترف بأن الوكالة ربما كانت قد قصّرت في التشدد في ضبط بعض المعلومات، ما يكون قد أدى إلى مقتل بعض العلماء الإيرانيين».
ويرى المعنيون في طهران أن محادثات بغداد كانت نوعاً من «المراوحة كرسوا في خلالها ما انتزعوه في إسطنبول من حيث مرجعية وكالة الطاقة، وهم على هذا الأساس يتوجهون إلى موسكو حيث التوقعات بأن تكون، كما غيرها من مفاوضات مقبلة، محاكاة لما حصل في بغداد، بانتظار جلاء الانتخابات الأميركية آخر هذا العام».
وموضوع مرجعية وكالة الطاقة ليس تفصيلاً بالنسبة إلى الإيرانيين. لطالما كانت الحال على هذا النحو، على ما تنص الأعراف الدولية، إلى أن جاء إجتماع لندن لعام 2001، حيث اقترح الغربيون عرض الملف النووي الإيراني على مجلس الأمن لإبداء الرأي، وبقي فيه منذ ذلك التاريخ. مثّل ذلك «الشرك» الغربي أو عملية «التذاكي» هذه أول عامل كسر ثقة الإيرانيين بالطرف المقابل، علماً بأن إيران لم تكن يومها تملك سوى أجهزة طرد مركزي من الجيل الأول p1 كانت قد اشترتها من السوق السوداء من باكستان، بعدما امتنعت وكالة الطاقة عن مساعدتها خلافاً لاتفاقات عضوية الوكالة التي تؤكد واجب هذه الأخيرة في تقديم كل مساعدة معرفية وتقنية ولوجستية لأي دولة عضو موقعة على الـNPT (اتفاقية حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل). من هنا يمكن فهم تصريحات جليلي في بغداد عن عدم التوازن بين الحقوق والواجبات للدول الأعضاء في وكالة الطاقة.
أياً يكن من أمر، فإن طهران مضت في طموحاتها، وبنت المنشآت النووية، وابتدعت جيلاً رابعاً متطور جداً من أجهزة الطرد، وخصّبت إلى درجة 20 في المئة، وصنّعت وقوداً وقضباناً نووية زودت بها مفاعل أمير أباد الطبي في طهران، فيما مضى الغرب في حصارها، قبل أن يعمد إلى تسييس ملفها النووي بنحو كامل في خلال محادثات جنيف 1 و2 وإسطنبول 1 و2. التسييس الأول كان بنقل الملف إلى مجلس الأمن، حيث توالت القرارات ضد الجمهورية الإسلامية، علماً بأن للدول الخمس الكبرى مندوبين في وكالة الطاقة مهمتهم مناقشة هذا الملف من النواحي التقنية والحقوقية والقانونية فقط لا غير. التسييس الثاني كان في جنيف مع ابتداع إطار 5 + 1 حيث رمي الملف مباشرة بين أيدي الدول الكبرى مباشرة، إلى أن اقتنع الغرب بأن «ليس في يد جليلي من راية بيضاء ليرفعها»، فكان ما كان أخيراً في إسطنبول.



تل أبيب: كنا على حق!

قالت «يديعوت أحرونوت» إن فشل محادثات بغداد كشف للغرب الخداع والتضليل الذي تمارسه إيران. ونقلت عن مصادر أميركية قولها إن جولة بغداد أثبتت أن الشك الإسرائيلي بخصوص فرص التوصل إلى تسوية مع طهران كان محقاً. كذلك نقلت عن موظفين كبار في وكالة الطاقة قولهم إن إيران خدعت يوكيا أمانو، الذي جعلوه يعتقد أنه سيوقَّع اتفاق يسمح بحصول اختراق في عمل مراقبي المنظمة، إلا أنهم لم يلتزموا ذلك، ما جعله يدرك بعد عودته إلى فيينا أن الإيرانيين خدعوه واستغلوا زيارته كي يخلقوا جواً إيجابياً قبيل محادثات بغداد. وقالت يديعوت إن خيبة الأمل من الإيرانيين أدت إلى محاولة أميركية لمصالحة إسرائيل، التي زارتها مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ويندي شيرمن لوضع تل أبيب «بشكل حميم» في صورة تفاصيل المفاوضات كي تثبت أن واشنطن تدير المحادثات بيد عليا.