لطالما كانت الهجرة إلى الشمال موسماً ينتظره الحالمون بغد أفضل من الأمس الهزيل المخيّم على بلدان العالم الثالث، حتى باتت بالنسبة إلى البعض ورقة حظ ما بين حياة أو موت، فغرق المئات من المهاجرين الفقراء في البحر أثناء عمليات التهريب إلى دول الشمال، مثل الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا ودول أوروبا الغربية.
الصورة في ألمانيا اليوم مختلفة؛ فبعدما استقبل هذا البلد ملايين اللاجئين من الحروب أو الاضطهاد في بلادهم على مدى عقود، مستفيدين من معاهدة جنيف التي تجبر بعض الدول الغنية على استقبالهم وإيوائهم، أصبحت وريثة الرايخ الثالث تبحث عن أشخاص مختلفين عن أولئك الذين كلّفوا الخزينة أموالاً باهظة من دون أن يسهموا أسهاماً كبيراً في إنماء اقتصاد البلاد، مستغلّين ثُغَر نظام الرعاية الاجتماعية الذي يجد فيه الكسإلى ضالّتهم.
وبحكم أن معدّل الولادات في حالة تراجع في مجتمع يحتل فيه كبار السن قاعدة الهرم الديموغرافي، باتت حاجات ألمانيا كدولة صناعية كبرى مُلحّة لكفاءات ومؤهلات في مجالات معينة. لقد أصبح القرار باستقبال مهاجرين «سبيسيال» قيد التطبيق، في ظل متغيرات مهمة يشهدها العالم، الذي تحوّل بفعل ثورة الاتّصالات إلى قرية كونية واحدة، ما يعني أن أسباباً عديدة تقف خلف قرار السلطات الألمانية بتسهيل معاملات قبول المهاجرين، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو ثقافي. لعل أهمها، كما يوضح مصدر مطّلع ألماني في بيروت، «الانفتاح على العالم وإسقاط الحواجز ما بين الشعوب، حتى يصبح التواصل أسهل». الأمر الثاني، حسب المصدر، هو «تغيير العقلية. فألمانيا من ناحية سياسية مرتبطة بعلاقات مع الدول الأوروبية والعالم، ولا بد أن يقبل الشعب الألماني الثقافات الأخرى».
إذن هناك عوامل عديدة فتحت أذهان الألمان على المستقبل، منها التنمية ومنها العولمة، ومنها الاستفادة من مقارنات حصلت مع دول أخرى اعتمدت الخبرات المهاجرة ونجحت في تنمية اقتصاداتها. وباتت الهجرة من الأمور الملحّة لدولة تشهد تزايداً في نسبة النمو، فيما كان عام2011 «عام المعجزات» في ألمانيا، بحسب وصف «EURONEWS».
لقد تراجعت نسبة البطالة في عام 2009 (8.2 في المئة) إلى (7.7 في المئة) في المئة عام 2010 وإلى (7.1 في المئة) في 2011، فيما كشفت بيانات صادرة عن مكتب العمل الاتحادي أن عدد العاطلين من العمل تراجع بأكثر من المتوقع في آذار الماضي، بمقدار 81 ألف شخص. ويبدو أن القضية الأهم بالنسبة إلى السياسيين الألمان هي موضوع الاندماج الذي يمثّل تحديّاً أمام ألمانيا والمهاجرين لإنجاح السياسة الجديدة. لهذا بدأت ألمانيا اعتماد برامج تعليم لغتها في بعض مدارس لبنان ومصر وغيرها من الدول التي تتمتع بكفاءات علمية، تمهيداً لاستقبال هذه الكفاءات بشروط أسهل.
ولعل بعض المشاكل التي تحدث حالياً في بعض الأحياء الفقيرة في مدن ألمانية، ناتج من انعدام المستوى الثقافي بين شريحة من المهاجرين. لذلك، تريد ألمانيا الآن مهاجرين مثقّفين ومتعلمين، تنجح معهم سياسة الاندماج أكثر من تلك الفئة ذات التعليم المتدني. وهنا يستطرد المصدر الألماني بأن هذه المشكلة الاجتماعية لا تتعلق فقط بالأجانب، بل أيضاً ببعض الألمان الذين يرفضون الآخر.
ويؤكد أن نسبة المتعلمين في المجالات الرئيسية مثل الهندسة والعلوم الطبيعية والطب، هي دون حاجة السوق الألمانية اليوم، لهذا كانت هناك برامج مكثفة تقوم بها البعثات الدبلوماسية والمراكز الثقافية التابعة للدولة الاتحادية لتأهيل كفاءات قادرة على الانخراط في المجتمع الألماني بأقل خسائر ممكنة.
الأمر الآخر الذي يلفت إليه المصدر المطّلع هو أن بعض الأعمال لا تحتاج إلى اللغة الألمانية، بل الإنكليزية، لذلك كان موضوع الهجرة لهؤلاء أسهل. كذلك، سهلت السلطات بعض الشروط المتعلقة بلمّ شمل العائلات، وكذلك شروط القبول في بعض الوظائف مثل تقليص حجم الدخل السنوي الذي تشترطه لمنح الموظف إقامة عمل، إلى نحو 44 ألف يورو سنوياً بعدما كان في السابق 66 ألف يورو.
المسألة لا تنتهي هنا؛ فهناك تسهيلات أخرى على مستوى شروط منح التأشيرة والإقامة، وهناك قوانين يجري العمل عليها في البرلمان الاتحادي «البوندستاغ» في هذا الإطار.
ومن القضايا المهمة التي قامت بها برلين على صعيد الهجرة، مراقبة سياسة كندا والولايات المتحدة في هذا الإطار، وما تتركه من أثر إيجابي على النمو في البلاد. لكن ما يميز بين الهجرة إلى هذه البلدان من جهة والهجرة إلى ألمانيا، بحسب المصدر الألماني، هو أن النوع الأول من الهجرة هو باب مفتوح دائماً أمام المهاجرين، بينما الآخر يُفتح باب الهجرة أمام اختصاصات معينة ولأسباب محددة.
وفي ظل تصاعد موجة اليمين المتشدد في بعض المدن والمواجهات الأخيرة التي حصلت بين أنصار هذا التيار وإسلاميين سلفيين متشددين في ولاية شمال الراين فيستفاليا، يقلل المصدر الألماني من ظاهرة «النازيين الجدد» وتأثيرها على وجود المهاجرين، مؤكداً أن «هذا التيار ضعيف ولا يمثّل تنظيماً كبيراً ذا تأثير».
ربما بدت عضو مجموعة الدول الصناعية الكبرى (جي 8) مهتمة بالعامل الثقافي، فبموازاة تشديد قبضة الأمن للحد من انتشار التطرف الديني بعد أحداث 11 ايلول في نيويورك وواشنطن، عززت السلطات الألمانية النشاطات الثقافية والاقتصادية والمشاريع التنموية مع العالم الإسلامي، وأسست مواقع إلكترونية فكرية مثل «قنطرة» لتعزيز الفهم المتبادل بين الغرب والإسلام، إضافة إلى تنشيط التبادل الفني والأدبي مع الدول العربية خصوصاً، ومباشرة برنامج «شرق غرب» لترسيخ العلاقة بين المثقفين من الطرفين.
لقد أكدت ألمانيا، التي تستقبل نحو ثلاثة ملايين تركي على أراضيها، على لسان وزيرة العمل فوندا لاين، أن الحكومة ينبغي لها أن تستقبل المهاجرين من المثقفين من كل العالم. ولا سيما أصحاب التأهيل العالي.
وتزامن هذا التصريح مع إعلان مهم جداً يتعلق بقرب إصدار «بطاقة الاتحاد الأوروبي الزرقاء» المشابهة للبطاقة الخضراء «GREEN CARD» الأميركية، بحيث تصبح إجراءات الهجرة من دول خارج الاتحاد أسهل، حسب الإعلان الرسمي في موقع «المركز الألماني للإعلام» التابع لوزارة الخارجية
(http://www.almania.diplo.de).
القانون الجديد الذي وافق عليه البرلمان الألماني، يهدف إلى تطبيق المعايير الإرشادية الأوروبية الخاصة بأصحاب التأهيل العالي، ويهدف كذلك إلى جعل ألمانيا أكثر جاذبية لأصحاب التأهيل العالي. فضلاً عن ذلك، ستُسهَّل إجراءات تصاريح العمل بالنسبة إلى الطلاب الوافدين بعد نهاية دراستهم في إحدى الجامعات الألمانية، وذلك اقتناعاً من برلين بأن العمالة العالية التأهيل هي الأساس الجوهري للنمو والرخاء في ألمانيا. وقد أكدت مفوضة الحكومة لشؤون الهجرة واللاجئين، ماريا بومر، أن هدف السلطات هو توفير فرص عمل متساوية بين المواطنين والمهاجرين، مشيرة إلى الحاجة لتشغيل 700 ألف مهاجر في المدى القريب.
في المقابل، لا يزال الكثير من المقيمين في ألمانيا يعانون مشكلات البيروقراطية في بعض الدوائر الرسمية، لجهة كثرة الأوراق المطلوبة لإنجاز بعض المعاملات مثل جمع الشمل أو الحصول على الإقامة غير المحددة الأجل (المفتوحة) وبدرجة أكبر معاملات الحصول على الجنسية. ويشتكي البعض في الخارج من صعوبة الشروط التي تفرضها السفارات على منح التأشيرات للراغبين بزيارة ألمانيا أو التمتع بسياحة جميلة في ربوع الراين.
مشكلة الاندماج
يبدو أن مشكلة الاندماج كانت السبب الأهم في تعقيد إجراءات قبول المهاجرين في ألمانيا، وخصوصاً مع وجود آلاف المهاجرين الذين لا يتقنون اللغة الألمانية، ومنهم من ينعزل في ما يشبه الـ«غيتوات» المغلقة التي لا تضم سوى أبناء جاليته، إضافة إلى ضعف العامل الثقافي لدى البعض، الذي يعزز الانطوائية وعدم قبول الآخر أو القدرة على فهمه.
لذلك كان موضوع الاندماج دائماً على جدول أعمال الساسة الألمان في السنوات الأخيرة، حيث أطلقت المستشارة الحالية أنجيلا ميركل (الاتحاد المسيحي الديموقراطي) منتدى بعنوان: «حوار حول مستقبل ألمانيا» يتيح للمواطنين عبر الإنترنت أو الحديث المباشر تقديم اقتراحات للمستشارة بشأن ثلاثة أسئلة كُبرى هي»: ما هي صورة التعايش التي نريدها؟ من أي شيء نريد أن نحيا؟ كيف نريد أن نحيا؟».
وقد أجرت ميركل أحاديث مع مواطنين في ثلاث مدن ألمانية، وكان كثير من هؤلاء المواطنين من الناشطين في الاتحادات الإقليمية وروابط ومنظمات المجتمع المدني وقطاع الاقتصاد والثقافة. وثمة شاهد على إمكان نجاح سياسة الاندماج لدى البعض، هو الفتاة الفلسطينية سوسن شبلي، التي نجحت في أن تصبح أول امرأة من أصول أجنبية تتولى رئاسة قسم حوار الثقافات لدى وزارة داخلية الحكومة المحلية في ولاية برلين.

الهجرة العسكريّة

ثمة جانب آخر يتمثّل باستيعاب المهاجرين في الجيش الألماني الذي فتح أبوابه أمام الرجال والنساء منهم. ولهذه الغاية، وقّع أمين الدولة البرلماني في وزارة الدفاع الألمانية، توماس كوسندي، بحضور مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون الاندماج ماريا بومر، «ميثاق التنوع» عام 2006، الذي يولي التسامح بين صفوف الجيش الألماني مزيداً من الاهتمام في المستقبل.




المشروع الجديد

ينص مشروع قانون الهجرة الجديد على: استحداث تصريح إقامة باسم «بطاقة الاتحاد الأوروبي الزرقاء». وسيكون الحصول على عقد عمل بحد أدنى 44.800 يورو سنوياً شرطاً يُضاف إلى الشهادة جامعية لمنح «البطاقة الزرقاء». ومن المقرر مستقبلاً التخلي عن اختبار الأولوية ومقارنة ظروف العمل.
وبالنسبة إلى أصحاب التأهيل العالي في المجالات التي بها نقص في الأيدي العاملة يوجد حد للرواتب عند 34.944 سنوياً، وينطبق ذلك بصفة خاصة على المهندسين والمتخصصين الأكاديميين في تكنولوجيا المعلومات والاتصال وكذلك الأطباء. وسيحصل حاملو «البطاقة الزرقاء» أيضاً على تصريح إقامة بعد ثلاث سنوات، إذا كان عقد العمل مستمراً. وإذا كان الشخص يعرف اللغة الألمانية بمستوى «بي 1» يمكنه الحصول على تصريح الإقامة بعد سنتين.
(ألمانيا انفو)