إسطنبول | حكمت المحكمة التركية الخاصة يوم الجمعة الماضي بالسجن لفترات تراوح بين 8 و 20 عاماً بحق 334 من جنرالات الجيش وضباطه بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري على الحكومة عام 2003. وكانت حملة الاعتقالات التي استهدفت جنرالات متقاعدين وعاملين قد بدأت عام 2008، فيما تأخرت محاكمتهم أكثر من عامين لتبدأ صيف 2010، وسط نقاشات واسعة في الأوساط السياسية والإعلامية، التي شككت في جدية الادعاءات.
وشككت كذلك بالوثائق والأدلة وشهود الزور. وجاءت التعديلات الدستورية في أيلول 2010 لتمنح الحكومة وجهازها القضائي صلاحيات واسعة ضد العسكر. وقضت هذه التعديلات بمحاكمة العسكر في المحاكم المدنية، في خطوة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية التركية، التي أسسها الجنرالات ويقولون إنهم حماتها من المخاطر الداخلية والخارجية. وكان التيار الإسلامي دائماً ضمن المخاطر الداخلية. وهذا ما يفسر الانقلاب العسكري الأخير للجنرالات على حكومة الإسلامي، نجم الدين أربكان، عام 1997. وسبق للجنرالات أن قاموا بثلاثة انقلابات عسكرية أخرى عام 1960 و1971 و1980 على الحكومات المدنية.
وجاءت القرارات الأخيرة للحكومة التركية، ومن قبلها التعديلات الدستورية والقانونية التي أقرها البرلمان بناءً على طلب الاتحاد الأوروبي، اعتباراً من عام 2001، لتضع حداً نهائياً لدور العسكر في الحياة السياسية. وأصبح عدد المدنيين في مجلس الأمن القومي أكثر من العسكر. كذلك أصبح الأمين العام للمجلس مدنياً بعدما كان عسكرياً، منذ تأسـيس المجلس قبل 70 عاماً تقريباً. وجاء تسلم العدالة والتنمية للسلطة في تشرين الثاني 2002 ليضع العسكر أمام تحديات جدية مع الحكومة الإسلامية الجديدة، لأن الجميع يعرف أن قادة العدالة والتنمية الذين كانوا طلبة الزعيم الاسلامي نجم الدين أربكان لن يترددوا في الانتقام لزعيمهم. وتحقق ذلك لهم بعد 10 سنوات بفضل الظروف والتطورات الإقليمية والدولية؛ اذ يعرف الجميع أن المساس بقيادات الجيش التركي لن يكون إلا بضوء أخضر أميركي. فقد كان العسكر دائماً، منذ انضمام تركيا إلى الحلف الاطلسي عام 1952، لسان حال السياسة الأميركية في تركيا وعبرها في المنطقة عموماً ومن خلال عشرات القواعد العسكرية التي كانت موجودة في تركيا. وجاءت إشارات الفراق الأولى بين الجنرالات وواشنطن بعد أن رفض البرلمان التركي في الأول من آذار 2003 نشر القوات الأميركية في تركيا إبان الحرب على العراق. وتحدث نائب وزير الدفاع الأميركي آنذاك بول فولفويتز، في أيار 2003 للصحافيين التركيين جنكيز شاندار ومحمد علي بيراند، وهدد بالانتقام من الجنرالات لأنهم لم يحركوا ساكناً في التصدي لقرار البرلمان. وتحدث الإعلام التركي طوال الفترة الماضية عن دعم أميركي لحكومة أردوغان في حملتها على الجنرالات، الذين تعرف واشنطن كل أسرارهم. وسربت ما تعرفه للإعلام والحكومة التي بدأت حملة الاعتقالات ضدهم بعد أن اتخذت كل التدابير لمواجهة كل الاحتمالات، بما في ذلك التجسـس على كل اتصالاتهم الخاصة والهاتفية والإلكترونية. ولم تهمل الحكومة فرصة اختراق المؤسـسة العسكرية، فكسبت رئيس الأركان الأسبق الفريق أول حلمي أوزكوك، إلى جانبها، فنقل كل أسرار رفاقه من الجنرالات إلى الحكومة، على حد قول الجنرالات المعتقلين. واستطاعت الحكومة بفضل هذه المعلومات، وبعد التعديلات الدستورية والقانونية، أن تبدأ حملة الاعتقالات التي شملت حتى الآن المئات من الجنرالات والضباط الكبار بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري على الحكومة، ومن بين هؤلاء رئيس الأركان السابق الفريق أول ايلكار باشبوغ، الذي عينه أردوغان لهذا المنصب عام 2009 وأحيل على التقاعد عام 2011 لأسباب قانونية ثم وضع في السجن بالتهم نفسها التي لم تقنع أحداً؛ لأنه لو كان يخطط لأي انقلاب لفعل ذلك عندما كان في رئاسة الاركان. ونجحت الحكومة في حملتها على العسكر بعد أن اقنعت غالبية الشعب التركي بأن ما تقوم به هو لترسيخ أسـس ومبادئ الديموقراطية. وأدى المثقفون الأتراك من ذوي الميول اليسارية والليبرالية، الذين عانوا من حكم العسكر دوراً مهماً في تغيير قناعات الشعب التركي تجاه الجيش، حيث تضامنوا مع الحكومة في حربها مع العسكر. ولم يعد للجيش أي ثقل أو دور في الحياة السياسية، ولا سيما بعد تعيين الجنرال نجدت أوزال العام الماضي رئيساً للأركان بعد استقالة قادة القوات البرية والجوية والبحرية العام الماضي، استنكاراً لسياسات الحكومة ضد المؤسـسة العسكرية التي يعرف الجميع أنها لم تعد حامي النظام والدولة والجمهورية بقدر أنها أصبحت أداة لتطبيق برامج ومشاريع حكومة العدالة والتنمية الحاكم داخلياً وخارجياً. وهذا ما يفسر سكوت جنرالات الجيش عن سياسات الحكومة في موضوع سوريا كما يفسر سكوت الجنرالات عن الحملة التي تستهدف المؤسـسة العسكرية من قبل وسائل الإعلام الموالية للحكومة في ما يتعلق بالفشل في التصدي لحزب العمال الكردستاني.
في غضون ذلك، يتوقع الكثيرون للحكومة أن تقرر قريباً ربط رئاسة الأركان بوزارة الدفاع مباشرةً ليكون رئيس الأركان تابعاً للوزير، خلافاً للوضع الحالي حيث يحتل رئيس الأركان التسلسل الرابع في مراسم الدولة التركية بعد رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء، أي اردوغان الذي يسعى الآن إلى أن يكون رئيساً للجمهورية بعد تغيير النظام إلى رئاسي ليصبح هو الرئيس ورئيس الحكومة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، التي ستتلقى بعد الآن كل تعليماتها منه مباشرة. فهو يقول إنه فعل كل ما فعله من أجل الديموقراطية، لكن الجميع يعرف أنها ديموقراطية الحزب الحاكم الذي سيطر على جميع مؤسـسات الدولة التركية ومرافقها، ولا سيما القضاء الذي من خلاله استطاع أردوغان أن يُنزل ضربته القاضية على جنرالات الجيش.



الجيشان التركي والمصري

لطالما شكل الجيش مصدر قلق وخوف بالنسبة إلى الإسلاميين، باعتبار أن الجنرالات علمانيون «حتى العظم»، وذلك خلافاً لجنرالات الجيش المصري الذين يصلّون ويصومون، والبعض منهم يذهب الى الحج، رغم التشابه الكبير بين الجيشين التركي والمصري. فكلاهما كان يتحرك وفق إشارات واشنطن، والآن وفق أهواء الإسلاميين رجب طيب أردوغان (الصوة) ومحمد مرسي المدعومين أميركياً. وتخلص الأول من جمهورية أتاتورك الاولى، فيما يسير الثاني على خطى الأول لينهي ما بدأه أنور السادات ثم حسني مبارك على طريق القضاء على الدور المصري العروبي القومي. ولم يعد الجيش المصري بالجيش القومي، كذلك لم يعد الجيش التركي بجيش أتاتورك، الذي قاد حركة التحرر والاستقلال ضد القوى الاستعمارية.
وفي كلتا الحالتين، الأخوان مرسي وأردوغان يقولان إن ما يقومان به ليس إلا من أجل الديموقراطية التي بات واضحاً أنها «إسلامية» تريد لها واشنطن أن تكون على توافق وانسجام معها تحت مظلة «الربيع العربي»، بعد أن ساهمت بترتيب البيت الداخلي المصري والتركي عبر التخلص من الجنرالات التقليديين.