واشنطن | لا مواكب سيّارة يخرج من نوافذها الشبان، ولا صور مرشحين ولافتات وأبواق سيارات وأغاني وأعلام حمراء وزرقاء. ليس في العدة الانتخابية الأميركية شيء من هذا، وخصوصاً في العاصمة واشنطن (التي تقع في مقاطعة كولومبيا)، حيث يحسم الديموقراطيون ومرشحهم، باراك أوباما، تقريباً المعركة لمصلحتهم. وكذلك فعلوا في عدة ولايات، منها كاليفورنيا ونيو مكسيكو وإلينوي ونيويورك وهاواي وماريلاند ونيوجيرسي وولاية واشنطن، في مقابل حسم الجمهوريين عدة ولايات أخرى، أبرزها ولايات الوسط (تكساس، أوكلاهوما، كنساس، نبراسكا، داكوتا الجنوبية وداكوتا الشمالية) ولويزيانا وألاباما وجورجيا وألاسكا.
وتتركز المعارك الجدية بالتالي في فلوريدا وكولورادو وويسكونسن وفرجينيا وأوهايو وبنسيلفانيا.
ويحظى الرئيس المنتهية ولايته، باراك أوباما، في الولايات المحسومة نتائجها، بـ237 صوتاً في مجمّع الناخبين الكبار الذي يضم 538 ناخباً، فيما يمتلك خصمه ميت رومني 206 أصوات فقط. فالرئيس من يضمن فوزه بـ270 صوتاً من ناخبي هذا المجمّع. وتتفاوت نسبة تمثيل الولايات في المجمّع بحسب عدد السكان. فتُمثّل كاليفورنيا الزرقاء (نسبة إلى لون الحزب الديموقراطي) بخمسة وخمسين صوتاً، تليها تكساس الحمراء (نسبة إلى لون الحزب الجمهوري) بثمانية وثلاثين ممثلاً، وبعدهما نيويورك وفلوريدا بتسعة وعشرين صوتاً لكل منهما.
ولكل ولاية نظامها الانتخابي ودوائرها الانتخابية، كما قوانينها الخاصة ومحاكمها وشرطتها ونظامها الضريبي ووزارتها وحاكمها وعلمها ومجالسها التربوية ومجلسا شيوخ وكونغرس وغيرها، ما يجعلها أقرب إلى الدول المستقل بعضها تماماً عن بعضها الآخر.

الأساس الانتخابي فلسفة اقتصادية

يمكن قبالة أحد المنازل رؤية ورقة صغيرة على خشبة مزروعة في الأرض كتب عليها اسم المرشح المفضل لصاحب المنزل. ويمكن رؤية شاب يرتدي قميصاً يؤيد أوباما أو خصمه. وبين آلاف المواطنين في شوارع واشنطن، لا بدّ من مصادفة صبية كل بضعة كيلومترات تعلق زراً ديموقراطياً أو جمهورياً على صدرها. ويكفي الانتخابات ذلك. فالحماسة تصرف تبرعات مالية في مكان آخر. وتتركز الحملات الانتخابية في التلفزيونات، أما المرشحان فيركزان، بحسب المتحدث باسم الخارجية الأميركية ديفيد لوبلين، كل من جهته، على: أولاً، خططهما لتوفير فرص عمل. ثانياً، تمتين الاقتصاد الأميركي، بعدما «بينت أزمة 2007 الاقتصادية أن المال يمثل التهديد الأول للحلم الأميركي وليس أي شيء آخر». ثالثاً، الضرائب، في ظل الاختلاف الحاد بين أوباما المتكل في برنامجه على الأخذ من الأغنياء، عبر الضرائب، لإعطاء الفقراء تقديمات اجتماعية وصحية. ورومني المؤمن بوجوب خفض الضرائب، لإنعاش المؤسسات الصغيرة فتوفر فرص عمل جديدة لتعاود العجلة الأميركية الاقتصادية السير. رابعاً، تنظيم الهجرة، في ظل تشدد خطاب رومني تجاه الوافدين الجدد وانفتاح أوباما. خامساً، مصادر الطاقة والنفط. وأخيراً سادساً، زواج المثليين والإجهاض. وتوضح إحدى شركات الاستشارات الانتخابية أن حجم الناخبين المهتمين بسياسة المرشحين الخارجية لا يتيح تعداد السياسة الخارجية ضمن العناوين الرئيسية المؤثرة بالناخب الأميركي.



ويركز أوباما في شكل حملته على الأفراد، فيسعى إلى التواصل مع ناخبيه – إلكترونياً أقله – فرداً فرداً. أما مضمون برنامجه، فيقوم على مبدأ التضامن الاجتماعي ومخاطبة هموم مجموعات كبيرة محددة، سواء طالبية أو عمالية أو نسائية أو غيرها، وذلك بعكس خصمه رومني، الذي يركز في شكل حملته على عموم الشعب الأميركي، أما مضمون برنامجه فيركز على «قدسية الفردية الأميركية» ووجوب حماية «المقدسات الرأسمالية»، من دون «تحميل المواطن الأميركي الناجح عبء المواطن الفاشل أو المتعثر».
وكانت حملة أوباما قد لاحقت الصفحات الخاصة بمؤيديه على فايسبوك لتحديد اهتماماتهم الرئيسية ومواكبة تعليقاتهم، تمهيداً لإعلام غالبيتهم رسمياً أن أوباما يشاركهم في اهتماماتهم، وقد فعل اليوم كذا وكذا وكذا لتحقيق مطالبهم. ويستمر الأوباميون في تحميل الجمهوريين مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي تشهدها الولايات المتحدة، ويسأل أكثر إعلانات الديموقراطيين ذكاءً الناخبين إن كانوا مشتاقين فعلاً إلى (الرئيس الأميركي السابق) جورج بوش آخر.
أما رومني، الذي يحيط نفسه من كل صوب بمستشاري بوش وصقوره في الاقتصاد والسياسة والإعلام، فيستفيد بلا شك من أخطاء سلفه الجمهوري جون ماكاين الذي أهمل في الانتخابات الرئاسية الماضية الإعلام الإلكتروني، لكنه يركز أكثر على وسائل التواصل التقليدي، ولا سيما اللقاءات الشعبية الواسعة. ولا يكاد يكون السباق الانتخابي بالتالي أكثر من نقاش اقتصادي – فلسفي، يفترض أن ينحاز الناخب الأميركي في 6 تشرين الثاني إلى إحدى وجهتيه: يوافق أوباما على تطعيم الرأسمالية الأميركية ببعض الاشتراكية، أو يزيدها بناءً على نظريات رومني استشراساً.

أرضية الأوبامية خصبة

يمثل الحزب الجمهوري الحاضنة الأمثل لأفكار زوار الولايات المتحدة المسبقة عن الرأسمالية الأميركية والفردية والـ«سوبرمانية» وحتى العنجهية والإصرار على قيادة الكوكب حتى ولو كره الكارهون. وسيظهر ما اختصرت تسميته «أفكار أوباما» بمظهر الخارجة عن المألوف الأميركيّ في هذا السياق. لكن المتجول في شوارع العاصمة الأميركية يلاحظ توقف الأميركيين المتواصل مراراً وتكراراً عند المتسولين، والحرص الشديد – خلافاً للأوروبيين عموماً – على ترك مبلغ صغير من المال، سواء للنادل في المقهى أو موظفة التنظيف في الفندق أو سائق الأجرة أو غيرهم من عمال الحد الأدنى للأجور. وسيسارع الشبان إلى ترك مقاعدهم عفوياً للمسنين، حين يصعدون بعدهم إلى الباص أو المترو. الأمور التي يحلو للديموقراطيين وصفها بالملامح الأولية للتضامن الاجتماعي.



ويضيف أحد ديموقراطيي واشنطن أن مبدأ التطوع في الجمعيات ذات الطابع الإنساني، الذي تقوم عليه الحزبية الأميركية، أقرب إلى التضامن الاجتماعي الذي يسوقه أوباما أكثر بكثير من «زيادة الفردية فردية» التي يصر رومني عليها. ويشار في هذا السياق إلى أن الموظفين الذين يتقاضون أجراً في الحزب الجمهوري لا يتجاوزون المئتين، ومثلهم تقريباً في الحزب الديموقراطي. أما المتطوعون فملايين.
والعمل الحزبي مرادف في الولايات المتحدة للعمل التطوعي. لا يحتاج مؤيد الحزبين إلى طلب انتساب أو حلف يمين أو غيره، يكفي عند تسجيل اسمه في قوائم الاقتراع تسجيل نفسه جمهورياً أو ديموقراطياً أو غيره (أو عدم تسجيل أي شيء) ليصبح جمهورياً أو ديموقراطياً أو غيره. ويقوم النشاط «الحزبي» لاحقاً على النشاط في إحدى الجمعيات، سواء الإنسانية أو البيئية أو الرياضية أو غيرها، تحت عنوان «تطوير المجتمع». فلا عقيدة بالمعنى التقليدي للكلمة تميز حزباً عن آخر: يكفي أن يرتاح الأميركي في التطوع مع هذه الجمعية أكثر من تلك، ليتلون بلونها الحزبي. وإلى جانب التطوع، يصرف هؤلاء من جيبهم بدل أن يُصرف لهم. وتقدر إدارة الانتخابات الفدرالية أن الكتلة المالية المتداولة في هذه الانتخابات تبلغ حتى الآن 5.7 مليارات دولار، يجمع المرشحون أكثر من نصفها من متبرعين بمبالغ صغيرة تراوح قيمتها بين عشرين ومئتي دولار. ورغم تقدير اللجنة الفدرالية بلوغ التكلفة الانتخابية هذا العام سبعة مليارات دولار، يبقى الرقم أقل مما يصرفه الأميركيون لإحياء عيد الهالوين، ويقدر بنحو ثمانية مليارات دولار.
وسط المتطوعين أخيراً، يبدو المشهد الانتخابي الأميركي أوضح: هذا يختار أوباما لأن المرشح الديموقراطي في مقاطعته وعد باهتمام أكبر بالمساحات الخضراء. وهذا يؤيد رومني تشجيعاً منه لحاكم يحسن إدارة شؤون ولايته. هنا سيدة مع أوباما لمراعاته المثليين، وأخرى مع رومني لمحافظته الدينية نسبياً. وتتداخل الدوافع العرقية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والحقوقية، حتى يستحيل فهم النظرة الأجنبية للرئيس الأميركي؛ لأكثرية ناخبيه هو ليس أكثر من عضو في مجلس الشيوخ أو النواب أتقن تدريب نفسه على إسماع ناخبيه ما يودون سماعه.

شمولية النقاش الاقتصادي

تثير أفكار الرئيس باراك أوباما الاقتصادية اهتمام أكثر الشركات الكبرى استشراساً اقتصادياً؛ فالنظام الاقتصادي القائم أوصل هؤلاء إلى أزمة تضر في نهاية الأمر بهم أكثر بكثير من غيرهم. وهم يعلمون أنهم أخذوا كل ما يمكن أخذه، ولا بدّ من توفير روافد مالية جديدة تغني المواطنين مجدداً ليعيدوا ابتلاعها بدورهم في نهاية الأمر مجدداً، فيشملهم النقاش الاقتصادي، كما يشمل الطلاب، ولا سيما المستفيدون من خفض أوباما الضرائب عن القروض الجامعية وزيادته المنح التعليمية، والمسنون المحتاجون للتقديمات الاجتماعية التي يحمل أوباما لواءها (يجب التذكير بأن التقديمات الحكومية، سواء الطبية أو الصحية أو التربوية أو غيرها، تكاد تكون غير موجودة هنا، فلكل خدمة ثمنها، ولا يمكن من لا يدفع أن يحصل على شيء مجاني من وزارة الصحة أو غيرها من المؤسسات الرعائية الموجودة في الدول الأخرى).



«تيتي تيتي»

في المناظرة الثالثة والأخيرة بين المرشحين المخصصة لسياسة كل منهما الخارجية، كان واضحاً انسجامهما شبه التام في ما يخص ملفات الشرق الأوسط، وبحثهما بشغف عن ثغرة ينفذان منها مجدداً للحديث عن القضايا الاقتصادية التي تشغل الناخبين أكثر بكثير من رأي هذا المرشح أو ذلك بما يحصل في تونس أو ليبيا أو غيرهما. فاهتمام الناخب الأميركي بالعراق أو الإسلاميين أو غيرهم يرتبط أساساً بتأثير العراق أو الإسلاميين أو غيرهم على مصالح هذا الناخب الشخصية والمباشرة. والأكيد أن انتقادات الرومنيين لعدم احترام خصومهم «صداقات الولايات المتحدة الأميركية ومبادئ الأمن الوقائي»، لا تعني أبداً أنهم كانوا سيتصرفون مع الثورات العربية المفترضة بطريقة تختلف كثيراً عما فعله أوباما. وبدا واضحاً أن الرئيس وخصمه يراوحان مكانهما في الملف السوري، لا يملكان جديداً يقولونه حتى للناخب الأميركي. ولم يفت أوباما التذكير بأن علاقة الحكومة المصرية المنتخبة بإسرائيل هي «خط أحمر». أما رومني فحرص في هذه المناظرة، كما غيرها، على التوقف كلما سنحت له فرصة عند وجوب استعادة الولايات المتحدة «صورتها القوية قائدةً للعالم»، كما كانت في عهد جورج بوش الابن ربما.