لوس أنجلس | ليست مجرد انتخابات رئاسية تلك التي تشهدها الولايات المتحدة اليوم. فالنتيجة التي كان الديموقراطيون يعتبرونها، قبل بضعة أسابيع، محسومة لمصلحة مرشحهم باراك أوباما، باتت اليوم رهن صناديق الاقتراع في أكثر من ولاية، أهمها: كولورادو التي انتفضت على تاريخها الجمهوري في الانتخابات السابقة وصوتت بأكثريتها لأوباما. وفلوريدا التي تعد أشهر مدينة في صراع الجمهوريين والديموقراطيين.
وأيوا التي بذل الجمهوريون كل جهد ممكن لإعادة عقاربها الانتخابية إلى ما قبل انتخابات 2008 التمهيدية. ونيو هامشر التي يصيّف المرشح الجمهوري ميت رومني فيها، ويراهن الجمهوريون على تعويض خسارتهم الانتخابات السابقة على أرضها. وأوهايو التي تأكد في أكثر من عشرة انتخابات سابقة أن من يفوز بها يصل إلى البيت الأبيض. إضافة طبعاً إلى فرجينيا وويسكونسين، اللتين لم تحسما وجهتهما الانتخابية بعد.
وفعلياً، كلما اقتربت الانتخابات كان يظهر بوضوح أكثر أنها ليست مجرد صراع بين مرشح يؤمن بوجوب تكريس صورة الولايات المتحدة كـ«دولة استكبار» أو «وحش رأسمالي»، ومرشح يعتقد بأن تقنيع الولايات المتحدة باللطف والدماثة يتيح لاستخباراتها ودبلوماسيتها تحقيق مصلحة الولايات المتحدة. فسواء في مراكز الحملات الانتخابية أو في أحاديث المرشحين واجتماعات الجمعيات، تعكس الانتخابات الأميركية انقساماً أفقيّاً هائلاً تشهده الولايات الأميركية.
ولأن الاقتصاد أساس وجود هذا البلد، بوصفه مكاناً يمكّن المهاجرين من شتى أصقاع العالم من تحقيق أحلامهم، لا يمكن الانطلاق إلا منه. ومن يعرف الولايات المتحدة قليلاً، يعرف أن التشكيك بحرية السوق هنا يوازي التشكيك بوجود الله في مكة مثلاً. لكن استمرار التخبط الأميركي في نتائج أزمة 2008 الاقتصادية، ينعكس تضارباً حاداً في المواقف تجاه سياسات الدولة الضريبية والاجتماعية وغيرها من أساسيات حرية السوق الأميركية، بشكل يزعزع أسس الرأسمالية التي ترتكز عليها هذه الدولة. وفي مقر جمعية «تحالف لوس أنجلس من أجل اقتصاد جديد» يمكن سماع عشرات الخبراء الاقتصاديين والناشطين الميدانيين يتحدثون بشغف عن تنظيم العمال ضمن مجموعات ضغط، واستقطاب جزء كبير من الذين يحول النظام الحالي دون تحقيقهم الحلم المالي الذي جاؤوا لأجله. ويزداد، بحسب إحدى مؤسسات الجمعية مادلين جينس، عدد المقتنعين وسط هؤلاء بأن مبدأ حرية السوق يقتلهم، وخصوصاً في أوساط الفقراء والمهاجرين من دول أميركا اللاتينية الذين يشكلون في ولاية مثل كاليفورنيا أكثر من ثلاثين بالمئة من الناخبين. وتقول جينس إن جمعيتها وآخريات تبتعد عن المفردات الإيديولوجية والعناوين الاقتصادية المتداولة، لإقناع الأميركيين بلغة سهلة بأن الاقتصاد وجد ليكون في خدمتهم، ولا يتعين عليهم بالتالي الاستمرار في خدمته. ومن الاقتصاد إلى القضايا الاجتماعية المطروحة. في الأساس، كان يمكن وصف الولايات المتحدة، مع كل شبق الحرية المعشش فيها بالدولة المحافظة، مقارنة ببعض الدول الأوروبية، ولا سيما أن غالبية الكنائس الإنجيلية تعتبر متشددة اجتماعياً ومتحررة لاهوتياً، مقارنة بالكنيسة الكاثوليكية. أما اليوم فتطيح الحاجة إلى أصوات الناخبين، ولا سيما أولئك المنضبطين في جمعيات خاصة بالمثليين والمثليات وتشريع الإجهاض وغيره، شتى القيم المحافظة المفترضة. فبعد تأييد الرئيس الأميركي باراك أوباما حق المثليين بالزواج، وتشريع خمس ولايات أميركية ذلك، تجنب مرشح الحزب المحافظ إشهار موقفه النهائي من هذه القضية. ويكاد لا يخلو منزل أميركي واحد أو كنيسة أو جمعية أو حزب أو مجرد تجمّع من نقاش صاخب، يبدأ من سلطة الأهل وعلاقة الدين بحياتهم اليومية، وينتهي بالعلاقات الجنسية، مروراً بما تفترضه شعوب كثيرة مسلّمات. أما ثالث الانقسامات فكان يمكن ملاحظته في مكاتب الحزبين، الجمهوري والديموقراطي، في آخر الأيام الانتخابية. عند الديموقراطيين تحتشد في قاعة ضخمة كل جنسيات العالم تقريباً: الأميركي من أصل مغربي يجاور الأميركي من أصل هندي، فالأميركي من أصل مكسيكي، فاليوناني والبلغاري والروماني والنيجيري والنيبالي واللبناني والفيليبيني، إلى ما لا نهاية، تقريباً. وفي المقابل، في قاعة الجمهوريين، لا بدّ من بعض الوجوه السمراء أو الصفراء احتراماً للشكل، أما المضمون فبشرته بيضاء جداً يسأل بقلق عمّا سيتبقى له في هذه الأرض؛ هم العالمون بمصير الهنود الحمر. ففي خلفية الصراع الرئاسي إذاً، ائتلاف عفوي لمجموعات عرقية واسعة تصطف خلف باراك حسين أوباما، مطالبة بالعدالة الاقتصادية بعد عقود من انتزاعها العدالة السياسية. ويقابل هذا الائتلاف استنفار أبيض يطرق في الغرف المقفلة أجراس الإنذار، محذراً من خطورة الفوز الأوبامي هذه المرة، لعدم حساب الرئيس الممنوع من الترشح مرة ثالثة حساب شيء في ولايته الثانية غير إرضاء ناخبيه حصراً و«ارتكاب» ما يدخله التاريخ. ويزداد الحديث عن الانقسام الأخير جدية، في ولاية فلوريدا مثلاً، حيث يصطف أكثر من 95% من المهاجرين الجدد من كوبا وبورتو ريكو إلى جانب الديموقراطيين، فيما تبرز الدراسات أن أكثر من 70% من اليهود الأميركيين و75% من العرب الأميركيين يؤيدون الديموقراطيين.
وفي الولايات الحمراء التي تتكتل في الوسط الأميركي حول تكساس ولويزيانا وميسيسيبي وكنساس وإنديانا، يغدو السؤال عن المستقبل خطيراً. باختصار، لا يمكن حتى المتابعين الأميركيين عن كثب لما تشهده بعض ولاياتهم تحديد ما يمكن ديموقراطيتهم أن تنتجه، لكن الأكيد أن في هذين اليومين يتحدد إن كان الجمهوريين لا يزالون قادرين على فرملة خصومهم، فيتأخر تغيير الحلم الأميركي قليلاً، أو أن أوباما سيفوز فيبدأ تحقيق ولو عشرة بالمئة مما وعد به في المرة السابقة.