استخبارات البيت الأبيض تسمّيها «الخضراء دائماً» Evergreen، وذلك منذ أن كانت سيّدة أولى في عام 1993. هيلاري كلينتون (65 عاماً) كانت دائمة الحضور في السياسة الأميركية، وخصوصاً الخارجية منها، فهي لم تكن فقط «زوجة الرئيس» بيل كلينتون، بل سعت إلى بناء علاقات تعارف خارجية منذ ذلك الحين، سهّلت عليها إتقان دور وزيرة الخارجية في العهد الأوباماوي الأول، وهو المنصب الذي قالت سابقاً إنها «لن تصل إليه قبل مليون سنة».
لكن «الخضراء دائماً» باتت «تحتاج الى الراحة»، كما صرّحت في نهاية تشرين الأول الماضي، معلنة أنها «لن تبقى لفترة أطول في منصبها». إذاً، هي لن تكون في فريق باراك أوباما الثاني في عهده الجديد. أوباما أيضاً قالها منذ أشهر: «كلينتون قامت بعمل جبّار، وأحببت أن تبقى في منصبها، وربما حان الوقت لتمضي وقتاً أكثر مع عائلتها». لكن، في الأيام الأخيرة انتشرت أخبار صحافية أميركية تفيد بأن كلينتون قد تبقى لفترة قصيرة في الإدارة الجديدة «ريثما تنتهي التحقيقات في حادثة الهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي»، فيما أكدت مصادر أخرى أن هيلاري ستترك منصبها فوراً، وتتجه الى الراحة والكتابة بعيداً عن السياسة. لكن هل ستبتعد كلينتون فعلاً عن الساحة السياسية؟ بعض الصحافيين يشيرون الى أن ابتعادها الآن سيكون «بهدف التحضير لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2016».
بعد شهر على تعيينها وزيرة للخارجية عام 2009، باتت حياة كلينتون تُقاس بالأميال الجويّة، لا بالأيام والسنين. إذ سجّلت الوزيرة رقماً قياسياً في تاريخ الخارجية الأميركية، وفي عدد البلدان التي زارتها والذي بلغ مئة دولة ودولتين خلال أكثر من 350 يوماً، محطّمة رقم مادلين أولبرايت التي سافرت الى 98 دولة خلال ولايتها.
وعن «التعب حتى الإنهاك والخدر»، يروي كل الصحافيين الذين رافقوا كلينتون طوال السنوات الأربع الماضية قصصاً عن الجولات المكوكية التي قاموا بها مع الوزيرة والتنقلات السريعة المكثفة واللقاءات المتنوعة التي غطوها خلال رحلاتهم. وقد أجمع معظم هؤلاء على وصف تلك الفترة من عملهم بـ«المنهكة» و«الضاغطة»، حتى إن البعض تساءل «كيف استطاعت كلينتون أن تصمد طويلاً بهذه الوتيرة؟».
«فرنسا ـــ أفغانستان ـــ اليابان ـــ منغوليا ـــ فيتنام ـــ لاوس ـــ كمبوديا ـــ مصر ـــ إسرائيل، في جولة واحدة... هذا أمر غير معقول حتى بالنسبة لنا»، يعلّق أحد موظفي الخارجية ممن يرافقون كلينتون بشكل شبه دائم في أسفارها، في مقال في صحيفة «ذي هافنغتون بوست».
لكن، عدا تحطيم الأرقام القياسية في التجوال حول العالم، ماذا عن إنجازات الوزيرة النشيطة؟ ينقسم الصحافيون الأميركيون حول حجم ما حققته كلينتون، وبينما تقول «نيويورك تايمز» إنها إنجازات ضخمة، وتصف الوزيرة بـ«نجمة الروك الدبلوماسية»، تشكك «فورين بوليسي» في أهمية ما أنجزته فعلياً.
مادحو كلينتون يعددون لها إنجازات على صعيد «إعادة الثقة بالنفس لموظفي الخارجية والسلك الدبلوماسي الأميركي» وفي مجال حقوق المرأة ويمتدحون نشاطها المفرط وولاءها للرئيس أوباما، رغم عدم تناغم آرائهما السياسية حول بعض القضايا المحورية. «هي تنتمي الى مدرسة بناء العلاقات الشخصية في السياسة الخارجية» يقول عنها البعض، لذا هي أسهمت في تحسين صورة الولايات المتحدة وعلاقاتها بمعظم قادة الدول أو قادة المعارضة فيها. بعض المتابعين يذكرون أيضاً إنجازها في احتواء ترددات «الربيع العربي» والثورات الشعبية والتغيرات في المنطقة العربية، وأيضاً لعب دور بارز في الدول الآسيوية لموازنة الثقل الصيني في القارة. كما يشير هؤلاء الى أن كلينتون هي من بين وزراء الخارجية القلائل الذين لا تسجّل لهم هفوات كثيرة قولاً أو فعلاً. المعجبون بكلينتون يشيدون أيضاً بدورها غير المباشر بدعم أوباما في حملته الانتخابية (غير الدعم المباشر الذي قدّمه زوجها بيل) وخصوصاً في إعلانها تحمّل كامل المسؤولية عن حادثة الهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي الليبية في 11 أيلول 2012، في مرحلة حساسة جداً من الحملة الرئاسية.
المشككون، من جهتهم، يعترفون لكلينتون بحيويتها ونجاحها في قيادة فريق السياسة الخارجية وبثّ المعنويات في البعثات الدبلوماسية في مختلف البلدان، لكنهم يسألون: ماذا بعد؟ فيعددون بعض القضايا الخارجية التي لم يكن فيها لكلينتون أي بصمات تُذكر، لا سرّاً ولا علناً، مثل الانسحاب من العراق والاستراتيجية الأميركية حيال أفغانستان، أو حتى العلاقات مع الصين التي لم تحرز أي تقدّم. كما لم تسهم الوزيرة في تحريك عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطيينين ولم تحقق أي إنجاز يذكر فيها، فضلاً عن فضيحة تسريب الوثائق الدبلوماسية عبر «ويكيليكس» وحادثة الهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي.
لكن هؤلاء المنتقدين يردفون أن مجمل إدارة أوباما الأولى، وموقع وزارة الخارجية ضمناً، واجهت صعوبات جمّة على مختلف الصعد بعد العهد البوشي. الصحافي ستيفن والت، يضيف الى تلك الأسباب، في مقاله في «فورين بوليسي»، إن أوباما لم يُعط كلينتون كامل الصلاحيات التي تمتّع بها وزارء خارجية سابقون، مثل هنري كيسينجر أو جيمس بيكر. لذا، «لم يكن مطلوباً من كلينتون أن تلعب دور وزيرة الخارجية في إدارة أوباما الأولى».
ورغم التباين في الآراء حول تميّزها في الخارجية أو لا، نجحت «الخضراء دائماً» في أن تشغل الرأي العام الآن بخبر إمكان ترشحها للرئاسة الأميركية بعد أربع سنوات، أكثر من خبر مغادرتها الإدارة الجديدة، حتى إن بعض شركات الإحصاءات بدأت تحتسب نسب فوزها في الولايات الأميركية منذ الآن!