أنقرة| الاتهامات الموجَّهة إلى الحزب الحاكم في تركيا وإلى رئيسه وحكومته بالتسلُّط، والعمل على أسلمة النظام السياسي، قديمة قِدَم تسلم «العدالة والتنمية» مقاليد الحكم عام 2002. اتهامات تستند إلى شواهد وحجج كثيرة، لا يزال رجب طيب أردوغان ورجاله يرفضونها: ازدياد أعداد الشوارع والمدن التي أُقفلَت فيها محال بيع الكحول، والحملات المنظمة على المجلات والصحف التي «تُظهر النساء بشكل شبه عارٍ»
، والتاريخ الإسلامي لحكّام أنقرة، وأحجبة زوجاتهم، والارتفاع الكبير في أعداد المحجبات والمساجد مقارنةً بما كانت عليه الحال قبل عشر سنوات... لكن قصّة إقصاء رئيسة مركز النشاطات النسائية في «مديرية الشؤون الدينية» الحكومية، عائشة سوجو (الصورة)، واستقالة 28 من الموظفين في هذه الهيئة التابعة مباشرةً لرئيس الحكومة، تضامناً معها، قد تكون أكبر دليل عند معارضي أردوغان لإثبات تشدد الحكومة.
ومسألة إقصاء سوجو وتعيين بديلة عنها تُدعى حفظى فيدان ودينلي، تشغل الشارع التركي منذ فترة. فالمرأة محبوبة جداً نظراً لانفتاحها، من موقعها، على فئات علمانية في إطار سعيها المزمن الذي تكرّره دوماً، والهادف إلى «البرهنة على أنّه يمكن المرء أن يكون مسلماً حقيقياً، وفي الوقت نفسه متماشياً مع قيم الحداثة والحياة العصرية». وترى سوجو ومناصروها الكثر أنّ إقصاءها عن منصبها الحسّاس (نظراً إلى الصلاحيات الكبيرة المعطاة لمديرية الشؤون الدينية) الذي شغلته لـ 14 عاماً، يعود إلى أن حكومة أردوغان لا تحتمل امرأة مسلمة معتدلة إلى درجة سوجو. أمّا الموالون للحكومة، فينفون التهمة على قاعدة أنّ فصلها مردّه إلى أنّ اسم سوجو بات «أكبر من المؤسّسة التي تعمل فيها، وهي استفادت من موقعها لغايات شخصية».
وقد تمكنت سوجو، على امتداد السنوات الـ 14 التي شغلتها في رئاسة «مركز النشاطات النسائية» في «المديرية»، من أن تحوّل مؤسستها إلى أهم وأقوى تجمُّع نسائي مع 12 ألف منتسبة. وشغلت المرأة هذه الفترة الطويلة من «الحكم» برعاية الرئيس السابق لمديرية الشؤون الدينية، علي برداك أوغلو، الذي حلّ مكانه قبل أسابيع محمد غورميز. وأوّل ما قام به غورميز كان إقالة سوجو، الأمر الذي أظهر الفارق الكبير بينه وبين سلفه أوغلو؛ وفي كلمته للأتراك بمناسبة حلول رأس السنة الجديدة قبل أيام، قال غورميز إن هذه المناسبة «لا علاقة لها أبداً بثقافتنا (الإسلامية)»، بينما رأى برداك أوغلو، في رسالته العام الماضي، أنّ «على الناس في هذه المناسبة أن يعيدوا النظر في أسلوب حياتهم، وأن يفكروا في أخطائهم لبدء عامهم الجديد». هكذا، بدا واضحاً أنّ الرجل الجديد على رأس «مديرية الشؤون الدينية» أقرب إلى نموذج الإسلام المتشدد في رؤيته لدينه، مقارنةً بسلفه الذي كان شعاره الانفتاح والاعتدال دائماً وأبداً. من هذا المنطلق، جاءت إقالة سوجو كخطوة في إطار فرض رؤية متشددة على المديرية الحكومية، التي تُحكم قبضتها، بإشراف رئيس الحكومة مباشرةً، على كل ما يتعلق بالمذهب السني الحنفي، الوحيد المعترَف به في تركيا، من تدريس وتدريب وتعيين الأئمة، مروراً بتحديد طبيعة خطب يوم الجمعة والأعياد، وصولاً إلى مراقبة الدروس الدينية في المدارس والجامعات. وتؤدي المديرية دوراً يضعها في مصافّ إحدى أقوى المؤسسات الحكومية التركية، التي يرى البعض في وجودها ضرباً لأحد مبادئ العلمانية، لكون الدولة التركية تشرف على الدين وتوجّهه.
وفي مقابل الاتهامات الموجّهة إلى غورميز، قامت حملة مؤيدة له لنزع صفة التشدد الديني عنه، وللتأكيد على أنه ليبرالي أيضاً، بدليل أنه صاحب مشروع إعادة تفسير الحديث النبوي لـ «إلغاء الفقرات التي تضفي ظلامية على قيم الإسلام، كتلك التي تضيّق من حقوق النساء وحرياتهنّ». حتى إنّ المدافعين عن غورميز يتمسكون بما عُرف عنه أنه «يُعدّ شخصياً فطور زوجته». من هنا، يشدّد معارضو سوجو على أنّ إقالتها لا علاقة لها بتشدُّد غورميز ولا الحكومة، على قاعدة أنّ الأمر يتعلق حصراً بأنها «بالغت في انفتاحها، بدليل أنها دعت ملحدين إلى اجتماعات منظمتها، حتى إنها من أصحاب نظرية أنّ ارتداء النساء الحجاب الإسلامي ليس واجباً دينياً ملزماً». أما المدير العام لـ «الشؤون الدينية»، نجاتي أكشسم، فبرّر فصل سوجو بأنّها «سعت إلى إبراز نفسها أكثر من مؤسّستها، وبالتالي لا علاقة للإجراء المتخذ بحقها بأفكارها أو أسلوب حياتها». بدوره، رئيس نقابة موظفي مديرية الشؤون الدينية، لطفي شنوجاك، كان واضحاً عندما رأى أنّ سوجو «تُناقض الإسلام وتفسّره بطريقة خاطئة».
هكذا، بات للعلمانيّين وللحركات النسوية الناشطة في تركيا حجة أقوى من أيّ وقت مضى للقول إنّه إن كانت الحكومة غير قادرة على تحمُّل إسلاميين معتدلين، فكيف لها أن تطيق علمانيين ويساريين؟