ربما تحسّر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وهو يزور ما بقي من شخص أقدم على الانتحار (محمد بوعزيزي) وينتظر بين فنية وأخرى زفرته الأخيرة. وربما أدرك الحالة التي وصلت إليها تونس تحت حكمه. لكن اقتراحه منح عائلة القتيل 20 ألف دينار (12 ألف دولار) وتوظيف أخته ليلى في العاصمة لن يحلا كل مشاكل الشبيبة. شباب يضطرون إلى الموت انتحاراً
، في ظاهرة لم يتورع مفتي تونس «الرسمي» عن تحريمها وتحريم الصلاة على من أقْدَم عليها. وهي صورة غير بعيدة عن فتوى شيخ الأزهر الراحل محمد سيّد طنطاوي بحق غرقى الهجرة السرية المصريين، معتبراً أنهم ليسوا شهداء، في تناغم مع سياسة تقودها الدول العربية المُطلّة على البحر الأبيض المتوسط، لخنق الأمل الأخير لهذه الشبيبة الضائعة واليائسة، في مقابل مساعدات ورشى، اعتبرها معمر القذافي غير كافية.
الأمور في تونس لم تهدأ، والحرب بين النظام الذي لا يريد أن يسمع آهات شبيبته الضائعة، وبين شباب لم يعد له ما يخسره ومستعد لكل شيء من أجل إثبات وجوده، مستمرة وتتخذ أبعاداً جديدة. وعدد القتلى في تزايد وأيضاً محاولات الانتحار (تتحدث الأخبار عن عشر محاولات انتحار، حرقاً)، ولن توقفهم فتوى «شيخ» السلطة.
ولعل انضمام أكبر نقابة عمالية تونسية (الاتحاد العام التونسي للشغل) الى مطالب المحتجين، بعد تردد طويل، يدل على أن النقابة العمالية تخاف من انكشاف عورتها أمام عموم الطبقة العمالية، أو أن الأمر لا يخلو من محاولة ركوب الموجة، للإمساك بالحركة الاحتجاجية والتفاوض من أجل قبرها، كما يحدث في كثير من دول العالم الثالث، وفي مقدمها الدول العربية.
وإذا كانت أخبار السبت والأحد قد حملت نبأ مقتل أكثر من 20 تونسياً لينضموا إلى القائمة التي تزداد بضحايا الانتحار ورصاص الشرطة كل يوم، فهذا لن يبشر بنهاية سريعة للاحتقان، بل سيترك بصمات ظاهرة على العلاقات بين السلطة السياسية وعموم الشعب، ربما ستستمر خلال فترة طويلة.
لن يكون الأمر كما في السابق، هذا ما يقوله العديد من التونسيين، فالأمر وصل إلى مستوى غير مسبوق في التعامل بين السلطة والمواطنين، تغذيه أنهار الدم التي سالتْ. يقول أحد الحقوقيين التونسيين: «إن السلطة فقدت صدقيّتها. التنمية الاجتماعية والإقليمية التي وعدت بتحقيقها ليست سوى كذبة كبيرة». وفي غياب الحريات السياسية، وعد النظام باستفادة الجميع من النموّ الاقتصادي، لكن الشعب لم يَرَ شيئاً من كل هذا. البطالة تمسّ 15 في المئة من السكان، كما أنها تمسّ واحداً من كل ثلاثة من ذوي الشهادات الجامعية. أما في سيدي بوزيد، التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة، فلا صناعة ولا فنادق سياحية. وتصل البطالة فيها إلى 48 في المئة، فيما 60 في المئة من الشباب من دون عمل.
وإذا كانت الدولة البوليسية لا تزال تخيف المواطنين، وخصوصاً في العاصمة والمدن الكبرى، فإنها لم تعد تخيف الكثيرين في سيدي بوزيد. هناك الناس ليس لديهم ما يخسرونه، كما يقولون، كما أن منطقتهم هي التي فجّرت المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي.
وإذا كانت العوامل المحركة للانتفاضة كثيرة، فإن محرّكها الرئيسي يبقى بطالة أصحاب الشهادات العليا، وهو ما يعدّ فشلاً كبيراً لبلد تباهى كثيراً بأنه حقق إنجازات كبيرة في محو الأمية وفي احتضانه أكبر نسبة من أصحاب الشهادات العليا.
وقد حققت تونس في غضون ثلاثين سنة تطوراً جامعياً يفوق بكثير كل الدول التي كانت في وضعيّة تونس. لكنها وجدت نفسها أمام فائض كبير من أصحاب الشهادات العليا، عجزت الإصلاحات البنيوية الكبرى، التي أنجزتها تونس في حقبة ما بعد بورقيبة، عن استيعابهم، وألقت بهم في الشارع. وهو ما أشعل فتيل الانتفاضة. ولعل المراقبين لمستجدات التظاهرات في تونس لاحظوا أن الحركة الحالية تشهد حضوراً قوياً ولافتاً لشرائح لم تتظاهر قط في السابق. وهو ما يعني إفلاس الحكومة، وفقدانها لقاعدتها السابقة. ويزداد الأمر تعقيداً وخطورة في المستقبل بسبب غياب أحزاب سياسية حقيقية (قادرة على تقديم البديل، وإحداث التناوب والتداول السلمي للسلطة)، ومعارضة قادرة على الجهر بمعارضتها، بدل الجهر بانتقاد وسائل الإعلام الأجنبية والحديث عن تدخلات ومؤامرات أجنبية وهمية، في غالب الأحيان.
أمام هذا الواقع، لجأ بن علي إلى القمع الدموي، إذ بلغت حصيلة قتلى رصاص شرطة مكافحة الشغب 20 شخصاً على الأقل. عددٌ من المرجح أن يرتفع نظراً الى خطورة العديد من الإصابات، في ظل أنباء إطلاق الشرطة مساء أمس النار على مشاركين في تشييع أحد القتلى.
غير أن الحكومة التونسية لم تعترف بالقتلى العشرين، مشيرة إلى أن عدد القتلى فقط 14، فيما ذكرت صحيفة «اللوموند» الفرنسية أنها تعرفت إلى هوية 11 قتيلاً، بينهم الشابة آمال بولاجي (26 عاماً).
وقال بيان لوزارة الداخلية «أسفرت الاحداث عن مقتل أربعة مهاجمين بالرقاب وإصابة اثنين منهم بجروح خطيرة. كما أسفرت الاحداث في القصرين عن قتيلين من المهاجمين وثلاثة جرحى في حالات متفاوتة». وكان الوزارة اعلنت في وقت سابق عن سقوط ثمانية قتلى في القصرين وتالة خلال مواجهات جرت الليلة قبل الماضية.
وبررت وزارة الداخلية التونسية إطلاق النار بأنه كان «دفاعاً شرعياً بعد تحذيرات بسبب إقدام مجموعات على تخريب ونهب وحرق مؤسسات بنكية ومركز للأمن ومحطة وقود»، فيما أكد شهود عيان لـ«الأخبار» أن قوات مكافحة الشغب عمدت الى استفزاز المتظاهرين وشتمهم والتطاول على عائلاتهم، وأن البعض منهم نهب ممتلكاتهم واعتدى على منازلهم.
وقال شاهد يدعى شكري هاينوني من مدينة القصرين لـ «رويترز» عبر الهاتف ان شبانا يرمون حجارة وزجاجات حارقة وان الشرطة تفتح النار في كل مكان بالشوارع. وقال شاهدان في مدينة الرقاب، التي تقع على بعد 210 كيومترات غربي تونس العاصمة، ان ثلاثة أشخاص بينهم امرأة قتلوا في اشتباكات مع الشرطة هناك. وأضاف كمال العبيدي، وهو نقابي لـ «رويترز» انه شاهد بأم عينه ثلاث جثث.
رقعة الاحتجاجات وصلت أمس إلى مدينة سوسة، مسقط رأس بن علي. وذكرت معلومات أن مصادمات عنيفة وقعت في حي الرياض في سوسة، بعد التحام محتجّين بجمهور كرة القدم. وقالت مصادر لـ«الأخبار» إن القوات الأمنية اعتدت على أملاك المواطنين في شارع التوفيق بحي الرياض، أكبر أحياء سوسة سكاناً، وحطّمت المقاهي والأملاك الخاصة، واستعملت الغاز المسيل للدموع بكثافة.

مقطع فيديو

ونظّم الاتحاد العام التونسي للشغل تجمّعاً احتجاجياً في وسط تونس العاصمة، رفع خلاله شعارات منادية بإطلاق سراح الموقوفين من المتظاهرين، ورفع الحصار الأمني المفروض على المناطق التي تشهد فيها الاحتجاجات. وقال عضو المكتب التنفذي لاتحاد الشغل، عبيد البريكي، إن «على الحكومة التونسية وقف إطلاق الرصاص على المواطنين العزل».
وفي ما يبدو أنه أصداء خارجية للأحداث الداخلية في تونس، استهدف «انفجار صغير» قنصلية تونس في بانتان قرب باريس، مخلّفاً «خسائر بسيطة» في ستارها الحديدي. وأعلنت مصادر أمنية أن «محروقات قد تكون مصدر الانفجار الصغير وأن الدائرة الجنائية في الشرطة القضائية كلّفت بالتحقيق».
مقاومة على النت
وفي ظل الحصار البوليسي الذي يسيطر على تونس ويخيف المواطن، تلجأ الشبيبة إلى الشبكة العنكبوتية، للتعبير عن مواقفها وفضح ممارسات النظام وأيضاً إرسال المعلومة إلى الخارج. لكن النظام الذي جرّب كل أشكال القمع في المسجد والجامعة والعمل والشارع، يجرّب قمع الشبكة، أيضاً. وقد أوقف الكثير من الشباب، كما دُمّر الكثير من المدوّنات. ولكن يبدو أن الشبيبة لن تتوقف عن مقارعتها للنظام ولسلطته البوليسية، وكما قال المتنبي: «كلما أنبت الزمان قناة / ركب المرء للقناة سناناً». ولعل أكبر انتصار لهذه الشبيبة اليائسة هو فضح طبيعة النظام التي تلتجئ إلى سلاح «الرقابة».
والظاهر أن الأحداث الأخيرة، التي تعدّ الأعنف في ظل حكم بن علي، كشفت أن سياسة القمع والاستبداد المتسلطة لا تؤدي بالضرورة إلى خنوع الناس. فالصدامات الجارية حالياً أكدت أن سياسة القبضة الحديدية التي يتبعها نظام بن علي فشلت في لجم أصوات الناس وصدّهم عن الدفاع عن حقوقهم.