أجهزة الاستخبارات الأميركية مُحرَجة. الرئيس باراك أوباما منزعج. صنّاع القرار والسياسة الخارجية مربكون. المحللون الاستراتيجيون مفاجأون. هذه هي أجواء الإدارة الأميركية بعد انفجار الثورات العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو هذا على الأقلّ ما تنقله لنا الصحافة الأميركية عن تلك الأجواء المستجدّة. البيت الأبيض يلوم الاستخبارات على التقصير والأجهزة تتهم الرئيس ومستشاريه بالعمى وعدم فهم التقارير المرفوعة. سجال حاد في أروقة وزارة الدفاع والخارجية، والكونغرس يستمع إلى شهادات كبار مسؤولي الاستخبارات الوطنية.
هل أخفق مخبرو الولايات المتحدة في تجميع الأخبار في بلدان «حليفة» ومكشوفة لهم؟ أم هو فشل المسؤولين في قراءة التقارير وربط المعلومات بعضها ببعض؟ لم يحسم أحد السجال بعد، ولم تُشر الأصابع الى اسم أو منصب تتهمه مباشرةً بالتقصير، لكنّ المؤكد أن رئيس القوة الدولية العظمى لم تصله تقديرات عن رحيل زين العابدين بن علي قبل 48 ساعة من خلعه، ولم يخبره أحد أن مبارك سينهار بعد 16 يوماً على قيام الثورة في مصر. وفي هذه الأثناء، ثورات جديدة تنطلق، وتغيير إقليمي يُستكمل ومستقبل لم تستطع رسم ملامحه أكبر وكالات الاستخبارات العالمية حتى الآن.
لم تشهد الصحافة الأميركية هذا الكمّ من النقاشات بشأن عمل الاستخبارات في الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول 2001. مسؤولون سابقون في وكالة الاستخبارات المركزية الـ(سي آي إي)، عملاء سريّون فيها (بأسماء مستعارة)، ضبّاط وموظفون في وزارة الدفاع، مستشارون في وزارة الخارجية، أساتذة في علوم الاستخبارات ومحللون في مراكز استخبارية دولية معروفة... كلّ من موقعه وخبرته حاول (ولا يزال) أن يجيب عن سؤال: لماذا لم تتوقّع الولايات المتحدة حدوث الثورات العربية المتنقلة؟
«لسنا بمبصّرين»، هو الجواب الرسمي الذي شهره مدير الاستخبارات القومية جايمس كلابر، في شهادته أمام لجنة الاستخبارات في الكونغرس في 16 شباط الماضي. تعاطف البعض مع الأجهزة ودافع عن أدائها، والبعض الآخر لم يقتنع بجواب رئيسها. أما الرقم الذي تكرر ظهوره في معظم المداخلات، فهو 80 مليار دولار (حصّة الاستخبارات الأميركية من ميزانية الدولة). مدافعون ومهاجمون اتفقوا على أهمية أن تتمكن إدارة أوباما من الإجابة عن سؤال: «متى ستقع الأحداث؟» أكثر من «هل ستقع؟»، لكن الطرفين اختلفا على جهوزية الإدراة للإجابة عن هذا السؤال.
معظم ضبّاط وعملاء وكالة الاستخبارات المركزية الحاليين والسابقين دافعوا بشراسة عن أجهزتهم، ورفضوا اتهامها بالتقصير ولاموا الرئيس أوباما شخصياً.
«إذا كان أوباما وكبار مستشاريه وأعضاء الكونغرس يقولون إنهم أُخذوا على حين غرّة بما حصل في تونس ومصر، فيجب ألّا يلوموا سوى أنفسهم»، تقول فيكي ديفول المستشارة العامة السابقة للجنة الاستخبارات في الكونغرس، ومساعدة المستشار العام لـ«السي آي إي»، في نقاش في صحيفة «نيويورك تايمز». ديفول تلقي كامل اللوم على أوباما، فهي ترى أن «أجهزة الاستخبارات لا تجمع أخباراً معيّنة وتفرز معلومات محددة وتنفّذ عمليات سرية في أماكن دون سواها لأنها ترغب في ذلك. بالطبع لا. فالعمل الاستخباري هو عمل ممنهج يبدأ بالقرارات السياسية التي يتخذها الرئيس وصولاً الى المخبرين». وتضيف: «التقارير لا تقدَّم عرضياً إلى الرئيس. فهو أكبر مستهلك للمعلومات الاستخبارية وكل الأجهزة ومصادر المعلومات تحتكم لأوامره، وإذا أخفق في إعطاء معلومة ما الأولوية في اهتمامه فهذا خطأُه هو». ديفول تشرح أن أيّ خبير في العمل الاستخباري كان سيتوقّع حصول انتفاضة ما في تلك الدول لمجرّد ملاحظة الوضع الهشّ المسيطر هناك منذ فترة، ولمجرد الانتباه الى حركة الشباب الناشط المثقف والمجهّز تكنولوجياً والمقموع»، لكنها توضح أن الـ«سي آي إيه» أو أي جهاز آخر لم يكن ليتوقع أن يحرق مواطن تونسي نفسه في ذلك اليوم، وأن تُشعل تلك اللحظة التحركات». وتضيف «ضبّاط الوكالة ماهرون لكنهم ليسوا عرّافين».
نظرية ديفول التي تُظهر أن الأجهزة قامت بواجباتها على أكمل وجه، تدعمها بعض الأرقام التي كُشف عنها خلال جلسات الاستماع في الكونغرس، والتي أظهرت أن الـ«سي آي إي» رفعت منذ كانون الثاني 2010 (أي قبل عام على الأحداث) أكثر من 1700 تقرير عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بينها 400 على الأقلّ تتناول عوامل وإشارات عدم الاستقرار في المنطقة، ونحو 15000 تقرير يرصد ما جاء في وسائل إعلام بلدانها. وبعدما قدم مدير الاستخبارات القومية هذه الأرقام في شهادته لم يتردد في القول إن «حجم التقارير الضخم لا يعني أنه كان باستطاعتنا تنبّؤ لحظة قرر فيها أحد باعة الفاكهة في تونس إحراق نفسه وإشعال عدد من الثورات في المنطقة». كلابر أردف دفاعاً عن نظريته: «أنا مقتنع كل الاقتناع بأن زين العابدين بن علي ذهب الى عمله في ذلك اليوم، ولم يكن يخطط للقيام بما فعله. جاء قراره بالتنحي سريعاً جداً».
وفي جلسة الاستماع نفسها، قال مدير الـ «سي آي إي»، ليون بانيتا، إن وكالته سارعت إلى تأليف فريق خاص من 35 عنصراً مهمتهم متابعة مجريات الأحداث على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، لكن بانيتا يشير الى وجود «كمّ ضخم جداً من المعلومات المتدفقة على تلك المواقع»، شارحاً أن هناك 600 مليون حساب على «الفايسبوك» و190 مليون حساب على «تويتر»، يجب مراقبتها، إضافةً الى 35 ألف ساعة فيديو تُحمَّل يومياً على «يوتيوب».
تيّار الموالين لأجهزة الاستخبارات والمدافعين عنها، لم يتردد أيضاً في الإشارة الى أن الإدراة الأميركية مشغولة جداً بـ «محاربة الإرهاب»، وهي ركّزت معظم العمل الاستخباري الخارجي لهذه الغاية فقط، دون أن تكترث للإشارات الأخرى. هؤلاء يشيرون أيضاً الى ضعف المستشارين الاستراتيجيين المحيطين بالرئيس أوباما الذين فشلوا في قراءة الأحداث. والدليل؟ لنفترض أن الاستخبارات فشلت في توقّع أحداث تونس، فلماذا لم ينجح المحللون وصنّاع القرار في البيت الأبيض بقراءة خريطة انتقال ثورة تونس الى مصر وغيرها من الدول؟ «كل ما كان يلزمهم هو شاشة «الجزيرة» وحساب على «تويتر»»، يقول تومي فيتور الناطق باسم مجلس الأمن القومي.
البيت الأبيض والكونغرس يلقيان اللوم على الـ«سي أي إيه» «لأنها هدف سهل»، يقول المدافعون. ويشير بعضهم الى مشكلة بارزة تشوب العلاقة بين أجهزة الاستخبارات وصنّاع القرار، ألا وهي البيروقراطية. رويل مارك غيريشت، ضابط سابق في الـ «سي آي إيه»، يقول في نقاش الـ «نيويورك تايمز»، «أي دبلوماسي أميركي يعمل في الشرق الأدنى يعلم أنه لا يستطيع أن ينجح في عمله ويصعد السلالم الدبلوماسية إذا نبّه الى التأثير السيّء لـ «عملية السلام» على حياة الفلسطينيين. كذلك الأمر بالنسبة إلى ضابط استخبارات في الميدان، هو لم يتوقّع أن يصفّق له أحد اذا أشار في تقاريره مراراً وتكراراً إلى موجة الديموقراطية التي ستجتاح المنطقة». ويختم بالقول: «عملياً، حشرية العمل لا تختلف بين دبلوماسي ومحلل في السلطة (لكن): إمّا أن يتكيّفا (مع السياسة الرسمية) أو أن يواجها خطر النسيان والتجاهل!». والحلّ؟ يقترح غيريشت «فليُحضر الرئيس أفضل موظفي الأجهزة ـــــ من الذين دفنتهم البيروقراطية ـــــ وليضعهم ضمن فريق مجلس الأمن القومي وليستمع اليهم ويتجاهل الآخرين».
أصحاب النظرية المعاكسة الذين أشاروا بأصابع الاتهام الى أجهزة الاستخبارات منذ اليوم الأول لديهم نظرتهم الخاصة إلى ما حدث. هم يردّون «المفاجأة» التي تعرّضت لها الإدارة الأميركية خلال الأحداث العربية الى «إخفاق الأجهزة الاستخبارية في عملها». الهجمة على الاستخبارات الأميركية من جانب سياسيين ونوّاب أميركيين ومحللين ترافقت مع استعراض لتاريخ فشل الأجهزة في إدراك وتوقّع أحداث تاريخية مهمّة ومفصلية، منها: هجمات بيرل هاربر، سقوط شاه إيران، انهيار جدار برلين، هجمات 11 أيلول، استفزازات كوريا الشمالية... لذا هم يقولون إننا «يجب ألّا نفاجأ بالمفاجأة»، فهي ليست المرة الأولى التي تفشل فيها الأجهزة بأداء عملها بطريقة صحيحة».
وردّاً على «الذريعة» التي قدمتها وكالة الاستخبارات بأن «ما سبب نشر وتطور الثورات هو المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي الواسعة والمتزايدة العدد»، عكس المهاجمون الحجّة وقالوا «إن هذا بالضبط ما كان ليسهّل اكتشافها وتوقعها باكراً». رئيسة لجنة الاستخبارات في الكونغرس، دايان فاينشتين، سألت متهكّمة في جلسة الاستماع: «هل تفقّد أحد ما كان يجري على الإنترنت؟».
عامل آخر لفشل العمل الاستخباري في توقّع الثورات العربية، أضافته جينيفير سيمز، أستاذة ومديرة قسم الدراسات الاستخبارية في جامعة «جورجتاون»، في مقال في «نيويورك تايمز»، إذ ربطت هذا الإخفاق بوزارة الخارجية أيضاً. حسب سيمز، تعتمد أجهزة الاستخبارات كثيراً على وزارة الخارجية لمتابعة التحركات الاجتماعية والسياسية في ميادين عملها، لكن وزارة الخارجية تشكو أصلاً من شحّ في الميزانية المخصصة لمراقبة مواقع التواصل الاجتماعية، ما أثر سلباً في أداء الوزارة والأجهزة. سيمز تشير أيضاً الى عامل اعتماد الاستخبارات الأميركية على ارتباطات خارجية وعلاقات مع أجهزة الدول لبناء شبكة خفية بهدف محاربة الإرهابيّين. تشرح سيمز أن «عدم القيام بعملنا الاستخباري الخاص والمضاد لتلك الأجهزة الخارجية التي نرتبط معها، يؤدي الى إضعافنا». وتنهي «من الخطير جداً أن نتابع التطورات الخارجية بعيون الدكتاتوريين لا بعيوننا نحن».
النائبة السابقة لمساعد وزير الدفاع، سيليستيه وارد غفانتر، تقول إنه «كان يجب على الاستخبارات الأميركية أن تركّز على الاتجاهات الطويلة الأمد، مثل التغيرات الديموغرافية وحركات الهجرة والتحولات الاقتصادية وتحركات المجتمع». وتشير الى انشغال الأجهزة بشأن واحد منذ فترة طويلة، وهو تجنّب هجوم آخر على الأراضي الأميركية، الأمر الذي أضعف قدرتها على توقّع أحداث أخرى. لكنها تلقي بعض اللوم أيضاً على صنّاع القرار في البيت الأبيض، وتدعوهم الى إعادة ترتيب أولويات اهتماماتهم السياسية، والى معرفة حدود معرفتهم للأمور.
المدافعون عن الإدراة الأميركية ورئيسها تذرّعوا أيضاً بـ «انشغال الإدارة» بشؤون كثيرة وبلدان خارجية معقّدة مثل الحرب في العراق وأفغانستان وباكستان، وأزمة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي والمواجهات مع الصين والمعارك مع كوريا الشمالية وغيرها... وهذا ما تطرّق إليه تحديداً المحلل السياسي مارك بيري، الذي كتب على مدونة الكونغرس، مقالاً يعلن فيه أن مشكلة فشل الجهاز الاستخباري الأميركي بتوقّع خلع حسني مبارك لا تُحلّ بنقل وظائف ومواقع إدارية وتغيير هيكلية العمل في الجهاز، بل إن الحل يجب أن يكون جذرياً.
بنظر بيري، الاستخبارات الأميركية تحتاج إلى طريقة تفكير جديدة لفهم العالم العربي. كيف؟ يقترح المحلل السياسي الأميركي أن توقف الولايات المتحدة سياسة عزل المجموعات الإرهابية ورفض التكلم معها، ويدعو الإدراة إلى التكلم مع «حزب الله» و«حماس» و«الإخوان المسلمين»، مثلاً، واصفاً تلك الأحزاب بالقوى الفاعلة في مجتمعاتها والمؤثرة في سياسة بلدانها. بيري يرى أنه يجب على العمل الاستخباري الأميركي الخارجي أن «ينضج». وهو يستشهد بما قاله كولونيل في قوات البحرية الأميركية: «هل تتذكرون الصورة التي جمعت روزفلت وتشرشل في يالطا؟ ستالين كان في الصورة أيضاً»، لكن ماذا عن إسرائيل؟ بيري يقترح أن تكون الاستخبارات الأميركية أكثر حزماً مع القيادة الإسرائيلية: «يجب أن تفهم إسرائيل أن أمنها يكون مضموناً أكثر، إذا ما أحيطت بأنظمة ديموقراطية لا بدول بوليسية».
أما من ضرب بكل تلك النظريات عرض الحائط، فهو وثائق «ويكيليكس» التي كشفت أن الإدارة الأميركية بشقّيها السياسي والاستخباري، كانت تؤمن ببقاء مبارك وتدعم استمراره في السلطة.



ثبات سوري ومناعة سعوديّة

لـ «ستراتفور» (موقع الاستخبارات العالمية) تقاريره وتحليلاته الخاصة بما حدث ويحدث في المنطقة. فهو يرى أن ما حصل في مصر ليس ثورة شعبية، بل انتقال منظم للسلطة الى يد الجيش المصري. ويقول إن مسألة خلف مبارك كانت تبحث بين نخب ضباط الجيش حتى قبل 25 كانون الثاني 2011. أما في تونس، فيرى أن الجيش سيقتدي بنموذج مصر في الحكم، وأنه لا ينبغي استبعاد احتمال تدخل مباشر للجيش. في ليبيا يؤكد المحللون أن معمر القذافي قادر على التصدي للحركات الاحتجاجية، وأن الأزمة الليبية قد تقود الى أزمة بين ابنَي القذافي المتصارعين على السلطة والمختلفين كلياً في النهج. أما في سوريا، فـ «يطمئن» «ستراتفور» إلى أن نظام بشار الأسد يملك كل الوسائل اللازمة للحفاظ على السلطة حتى لو سُجلت بعض التحركات المعارضة. وفي المملكة العربية السعودية هناك مشكلة خلافة فحسب، والمملكة تتمتع بنظام مناعة قوي... لغاية الآن.