يمكن الباحث عن حقيقة الموقف التركي من المسألة القبرصية أن يجده بحالته الخام في الشارع، حيث تغيب الكلمات الدبلوماسية المنمَّقة التي يغطّي بها المسؤولون الحكوميون عادةً موقفهم من الأزمة التاريخية المعقَّدة.
لماذا نتخلّى عن قبرص؟

المواطنون في الشارع يقولونها من دون تردُّد: الدين حائط شديد السماكة بيننا وبين القبارصة اليونانيين. كذلك التاريخ؛ فمَن يصدّق أنّنا نسينا الدم الموجود بيننا وبينهم بمجرد إبرام شبه المصالحة الرسمية بين أثينا وأنقرة عام 1999؟ مواقف يمكن العثور عليها بسهولة على ألسنة مواطنين يعرفون تماماً أنّ عدم التوصل إلى اتفاق سلام بشأن جزيرة قبرص المقسَّمة يعني أمراً واحداً، هو أن لا أمل لتركيا في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي. وعن هذا الموضوع يعرب هؤلاء عن رأيهم بضرورة عدم تقديم تنازلات لليونانيين والأوروبيين عموماً؛ لأن «قبرص ليست سوى العذر الرسمي لعدم قبول تركيا في الاتحاد»، ولأنه «حتى إن تخلينا نهائياً عن قبرص، فسيجد الأوروبيون على الفور ألف عذر جديد لتعقيد المفاوضات». وبالنسبة إلى البعض، إنّ التخلي عن قبرص سيعني خسارةً مزدوجة بالنسبة إلى الأتراك: «أولاً سنعرِّض أشقاءنا القبارصة للخطر، بما أنهم سيكونون فريسة للمتطرفين القبارصة اليونانيين الذين سينتقمون منهم، وثانياً سنخسر ورقة تفاوض قوية، إضافة إلى أننا سنفقد موطئ قدم لنا في منطقة ذات قيمة استراتيجية كبيرة على تخوم أوروبا والشرق الأدنى (رغم أنّ قبرص التركية تغطي فقط 36 في المئة من كامل مساحة الجزيرة)، وكل ذلك في مقابل ماذا؟ مقابل مجرّد مليونَي دولار تقريباً تدفعها حكومتنا شهرياً لنظيرتها القبرصية، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بما يدرّه علينا من قيمة مضافة على الصعد السياسية والاستراتيجية».
أما من الجهة الرسمية، فيحاذر المسؤولون تسمية الأمور بأسمائها مثلما يفعل المواطنون غير السياسيين عند الحديث عن التعاطي الأوروبي غير العادل مع ملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. فنائب الأمين العام لمديرية شؤون الاتحاد الأوروبي في رئاسة الحكومة التركية، براق إردنير، يعتمد نبرة هجومية تجاه الأوروبيين، حين يذكّر بأنه من أصل 33 فصلاً في المفاوضات، 17 فصلاً ممنوعاً جرى فتحها، 5 منها (ما يتعلق بحقوق الإنسان والتجارة والنفط...) بقرار اعتباطي من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شخصياً، من دون ذريعة، سوى أنه ضد قبول تركيا في الاتحاد. ورغم البطء الشديد في المفاوضات، مقارنةً بما يجري مع الدول المرشحة للعضوية، إلا أنها لا تزال تدور حول قضايا بعيدة عن الإشكاليات السياسية الكبرى، كقبرص مثلاً. فالفصل الـ12 الذي أُنجز أخيراً، هو عن المعايير البيئية المعتمدة في دول الاتحاد. أما الفصل الـ13 الذي افتتح في حزيران الماضي، فهو يتمحور حول الأمن الغذائي والبيطري والصحة النباتية.

صوفيا قبل أنقرة؟

وبمقارنة سريعة، اجتازت الدول الأربع الأخرى المرشحة للعضوية الكاملة، أي كرواتيا وأيسلندا ومقدونيا والجبل الأسود، مراحل من المفاوضات بسرعة قياسية، رغم أن أوضاع معظمها أسوأ بما لا يُقارَن مع تركيا، لكن الفارق هو أن الشرط الرئيسي متوافر عندها وغائب عند الأتراك: جميعها دول مسيحية، بينما تركيا مسلمة.
ولا يتردّد المسؤولون الأتراك في ذكر هذا الواقع بفوقيّة في كل مرة يُسألون فيها عن بطء المفاوضات معهم، مستذكرين التساؤل الساخر الشهير لرئيسة الحكومة تانسو تشيلر، عندما أُبلغَت بأن بلغاريا باتت قريبة من الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، قائلةً: «معقول؟ صوفيا قبل أنقرة؟».
ولدى استفسار إردنير عما إذا كانت تركيا تتجاهل الأسباب الحقيقية للرفض الأوروبي تجاهها، على قاعدة أن أسباب هذا الرفض هي سياسية ودينية أولاً، لا يتردّد بالكلام على «نظرية الجسر» بين أوروبا وآسيا، وهي النظرية التي اخترعتها أوروبا نفسها لتبرير حاجتها إلى تركيا أوروبية. نظرية قوامها أنّ أوروبا بحاجة فعلاً إلى قدم لها في الشرق، وتركيا هي أكثر الجاهزين لتأدية هذ الدور. ويقول: «نحن القدم الأخرى لهذا الجسر، وقدَمُنا في الغرب كانت دائماً قوية وثابتة، وحالياً نحاول تقوية القدم الشرقية لهذا الجسر»، في تبرير دبلوماسي لـ«العودة التركية» إلى الشرق، التي يسمّيها الغربيون عموماً تغييراً تركياً في الوجهة من الغرب إلى الشرق.
وعلى صعيد متصل، يعترف إردنير باستفادة حكام أنقرة من ذريعة الشروط الأوروبية للقيام بإصلاحات كبيرة على جميع الصعد: اقتصادياً، باتت الدول الـ27 هي الشريك التجاري الأول بالنسبة إلى تركيا، مع 88 مليار دولار هي حجم التبادل التجاري. «والاستفادة الكبرى بالنسبة إلينا كانت في مسيرة الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، إذ إنّ كثيراً من هذه المعايير الأوروبية باتت محترمة في تركيا». من هنا، تمكّنت تركيا بذريعة احترام «معايير كوبنهاغن» الأوروبية، من تحديث قضائها وإلغاء عقوبة الإعدام، وتحييد الجيش شيئاً فشيئاً عن الحياة السياسية، وتحسين وضع حقوق الأقليات الدينية والقومية في تركيا، وحقوق المرأة والمساواة الجندرية.

استثمار أوروبا داخليّاً

هنا، يمكن الاسترسال مع كلام إردنير، وفتح الباب أمام التحليل غير البريء للوصول إلى خلاصة مفادها أنّ حكومات حزب «العدالة والتنمية» كانت تعرف، منذ بدأت مفاوضات العضوية مع الاتحاد الأوروبي عام 2005، بعد 6 سنوات من نيلها صفة المرشحة للعضوية عام 1999، أن حظوظها ضئيلة في أن تصبح مقبولة في النادي الأوروبي، لكنها أصرّت ـــــ ولا تزال ـــــ على مواصلة المفاوضات لاستغلالها في الداخل التركي. فقد أرسى مسؤولو أنقرة قاعدة مفادها أنّ أي صوت معارِض لإصلاحات تتقدّم بها الحكومة أو البرلمان يكون هدفها تلبية المعايير الأوروبية، أكان في فتح الاقتصاد للنيوليبرالية، وتحديث القضاء وعصرنته، أو تحسين وضع الحريات العامة والخاصة وإبعاد الجيش عن السياسة، سيُنبَذ بعيون الأتراك؛ لأنه يعوق انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي. هكذا أجرى أردوغان ورفاقه عشرات الإصلاحات القانونية والدستورية، التي حصّنت موقعهم في وجه المؤسسة العسكرية خصوصاً، وأعطت تركيا قيمة اقتصادية مضافة، بما ثبّت موقع «العدالة والتنمية» في الحكم، وحسّن من موقع تركيا على جميع الجبهات على نحو لم يعد ممكناً التراجع عنه.

ليبراليّون لا تغشّهم «المناورات»

لكن في المقابل، هناك في تركيا فئة مثقّفين يمكن بسهولة ملاحظة بعدهم فعلاً عن جزء كبير من الأوساط الشعبية. هم مثقّفون يحبّون تسميتهم «الليبراليين». عددهم كبير ويبحثون من دون كلل عن تأسيس حزب سياسي. مواقف كثيرة تجمع بينهم، لكن الكثير أيضاً يفرّقهم، لذلك لم يتمكّنوا بعد من تأسيس الحزب الموعود. معظمهم متحمّسون للغاية لتركيا أوروبية، ويتفقون على ضرورة إقصاء الجيش التركي عن الحياة السياسية. يكرهون النسخة الكمالية الأتاتوركية من العلمانية، لكنهم في الوقت نفسه متخوّفون من نيات «الأجندة السرية» لحزب «العدالة والتنمية». ومن بين ما يجمع عليه هؤلاء، إصرارهم على ضرورة الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، وتحميل الحكومات التركية المتعاقبة مسؤولية إخفاق المفاوضات.
أستاذ الاقتصاد في جامعة إسطنبول، الصحافي في جريدة «ستار»، الوجه المعروف جداً في البرامج السجالية السياسية، محمد ألتان، نموذج عن هؤلاء الليبراليين. هو بعيد عن أجواء أجوبة بعض مواطنيه المتشائمة إزاء احتمال انتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ألتان يعتقد جدياً بإمكان قبول تركيا في الاتحاد «إذا قامت الحكومة بالإصلاحات المطلوبة». إجابة أكاديمية الطابع مُضافة إليها جرعة كبيرة من الموقف السياسي المناهض لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، الذي «لا يحب أوروبا رغم كل ما يقوله بعكس ذلك من أجل هدف الاستهلاك السياسي، بدليل أنه لم يفعل شيئاً كبيراً منذ وصوله إلى الحكم في 2002 لتحقيق هذا الهدف ـــــ الحلم». لا يحبّها ببساطة لأنّ إسلاميي «العدالة والتنمية» يعدّون أنفسهم جزءاً من النسيج الإسلامي في المنطقة، وأقرب دينياً وحضارياً وثقافياً إلى العرب والمسلمين منه إلى ثقافة التنوير الأوروبية. ثمّ يستدرك ألتان ليذكّر بأن أولى حكومات الحزب الحاكم بدأت عهدها ببعض الإصلاحات المطلوبة أوروبياً، قبل أن تتوقف عن ذلك في ما بعد. أما عمّا يُحكى عن تحسُّن معايير المساواة الجندرية في تركيا، وفقاً للمعايير الأوروبية، فيردّ ألتان بالاشارة إلى أن تحديث القوانين لم يرفق بعمل لتطبيق لهذه القوانين، والنتيجة أن «النساء غير موجودات تقريباً في سوق العمل، بمرتبة 127 على 134 دولة من حيث مشاركة المرأة في الإنتاج».
وهنا يحمّل الصحافي والأستاذ الجامعي كامل المسؤولية لحكومات أردوغان وسلفه عبد الله غول، لأن «مجتمعنا لديه الرغبة الفعلية بالتحوّل إلى مجتمع أكثر ليبرالية، لكنهم يعوقون هذا التطور».
ولدى سؤاله عن أهمية التعديل الدستوري الذي أجري في 12 أيلول الماضي، من حيث ملاءمة التعديلات لمعايير كوبنهاغن، يعود ألتان ليجزم بأنّ المواد التي كانت ستُعَدّ ثورية بالفعل، أسقطها نواب حزب أردوغان نفسه من مشروع التعديل، لذلك «لا يزال قانونا الأحزاب والانتخابات هما قانوني انقلاب عام 1980». ويقلِّل الرجل من قيمة دور الرفض الأوروبي لفكرة انضمام تركيا، على قاعدة أن «موازين القوى في دول القارة العجوز ستتغيّر، المهم أن نكون نحن مستعدين لتحديات المرحلة التي ستكون أوروبا فيها أكثر قبولاً لاستقبالنا في ناديها». ويحصر الدول «المعادية» لفكرة تركيا أوروبية بفرنسا وحدها، مقلِّلاً من أهمية الإسلاموفوبيا واليمين المتطرِّف في أوروبا، وواضعاً هذه التبريرات في خانة «الحجج التي تستخدمها الحكومة لتغطية عدم رغبتها الحقيقية في اللحاق بالقطار الأوروبي». إلا أن محمد ألتان لا يقطع الأمل نهائياً بأردوغان ورجاله، «لأنهم براغماتيون للغاية، وإن شعروا بضرورة التغيير والقيام بإصلاحات حقيقية، فسيفعلون ذلك، من هنا أهمية دور ضغط المجتمع المدني التركي والمجتمع الدولي على الحكومة».
ولدى استفساره عن المطلوب من الحكومة التركية أن تفعله سريعاً لتسريع المفاوضات البطيئة مع أوروبا، يقدم مجموعة من الأسئلة: لماذا لم يشمل التعديل الدستوري المواد التي تبقي الجيش خارج السيطرة السياسية للحكومة؟ لماذا لا يزال أي كان قادراً على الاطلاع على راتبي أنا الأستاذ الجامعي الحكومي، بينما يعجز رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان عن مراقبة موازنة الجيش؟ وهنا، يقترح ألتان إجراء مقارنة منطقية بين النظامين السياسيين التركي واليوناني؛ في اليونان، حوكم ضباط الجيش الذين نفّذوا الانقلاب الشهير وحكموا بين عام 1967 وعام 1974، بينما لا يزال نظراؤهم الأتراك خارج أي مساءلة. أما عن إمكان محاكمة جنرالات انقلاب 12 أيلول 1980، كنعان إفرين ورفاقه، فيعرب الرجل عن استعداده للمراهنة، بأي ثمن، على أن الجنرالات لن يحاكموا وهم أحياء.
إذاً، يثق ألتان كلياً بأن فريق عمل حكومات حزب «العدالة والتنمية» ليس راغباً بالعمق في الانتساب إلى أوروبا، لكن لماذا يصرّ الخطاب الرسمي على قول عكس ذلك؟ يبرّر كثر ذلك بأن مجرَّد مجاهرة الحكومة بنيّتها الحقيقية إزاء أوروبا، سيعني أموراً كثيرة بالنسبة إلى الغرب وأميركا والداخل التركي: أولاً، سيعني لـ«المجتمع الدولي» أنّ تركيا غيّرت أولوياتها فعلاً، وأنها تحوّلت رسمياً إلى جبهة الأعداء (إيران وسوريا وحزب الله وحماس...). كذلك سينزع هذا الاعتراف كل الشرعية عن «الإصلاحات» التركية الداخلية التي تقزّم من دور الجيش والقضاء العسكري، وهي الخطوات التي تضمن الأصوات للحزب الحاكم في صناديق الاقتراع.
وعن الدستور الجديد، الذي يعد به أردوغان منذ فترة طويلة في حال فوز حزبه في انتخابات حزيران المقبل، لا يبدو ألتان شديد التفاؤل، وخصوصاً أنّ الحزب الحاكم اليوم دخل مرحلة الإعداد للانتخابات التشريعية، وأنه يستخدم كل الأسلحة المتاحة لذلك، بهدف استمالة القوميين والمحافظين والقوى الدينية في لعبة صناديق الاقتراع، وهؤلاء أبعد الناس عن التغيير والليبرالية، وبالتالي ستحول أجندتهم دون تنفيذ أي مشروع إصلاحي ديموقراطي، إن وُجد، لدى حكومة أردوغان، بحسب ألتان دائماً. ولا يتردّد الأستاذ الجامعي في اعتبار أنّ كل قصّة تعديل الدستور الذي يخوض فيه أردوغان معركته الانتخابية، تُختَصَر بنيته في تحويل النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي على الطريقة الأميركية، ليتسنّى له الترشح لرئاسة الجمهورية ويحكم بصلاحيات كبيرة. أما باقي «الثرثرات» عن دستور جديد عصري وعلماني حقاً ومدني، فلا يجد فيها ألتان سوى ديكور ضروري لتزيين المشاريع السلطوية لأردوغان، وخصوصاً أن شعارات من هذا النوع تدغدغ كلاً من الناخبين الأتراك، والمسؤولين الغربيين.

■ ■ ■

كبيرة جدّاً ومسلمة جدّاً وفقيرة جدّاً



لا تزال تركيا مسرحاً لصراع أفكار لم تمُت بعد، رغم ما أصابها من نكبات. ولا يزال الخلاف حادّاً بين الإسلاميين والعلمانيين الكماليين والليبراليين واليساريين والأكراد على الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي
يبرّر بعض الأوروبيّين رفضهم الحاد لأن تصبح تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي بنظريّة أنّ هذه الدولة «كبيرة جدّاً، مسلمة جدّاً وفقيرة جدّاً» Too big too muslim too poor. مسلمة جدّاً بملايينها الـ75 الذين سيضاعفون عدد مسلمي أوروبا، المتزايدين أصلاً بسرعة قياسية تهدِّد مشروع «أوروبا المسيحية». وكان عدد هؤلاء عام 1950 نحو 800 ألف فقط، بينما صاروا 23 مليوناً في 2003، واليوم يناهز عددهم الـ50 مليوناً، أي ما يمثّل 10 في المئة تقريباً من مواطني الاتحاد الأوروبي. هي كبيرة جداً بسكانها، إذ ستصبح، في حال قبولها، ثاني أكبر دولة من حيث المواطنين بعد ألمانيا (82 مليون مواطن) وفرنسا (66 مليوناً). عدد سكان سيعطيها عدداً هائلاً من النواب في البرلمان الأوروبي وداخل مؤسسات الاتحاد التي تتمثل بمندوبين بحسب عدد السكان. وأخيراً، هي فقيرة جداً على قاعدة أنّها ستضرب صورة «القارة الغنية» إذا انضمّت تركيا إليها. ورغم أن هذه النظرية عمرها أكثر من 3 عقود، إلا أنها لا تزال سارية المفعول حتى اليوم بقوة في وجدان عدد كبير من الناخبين الأتراك.
لذلك، لا يزال الجهد الحكومي التركي الرئيسي منصبّاً على محاربة هذه النظرية، من خلال مخاطبة صنّاع الرأي العام الأوروبي بالقول إن الإسلام التركي هو الأفضل للتعايش مع مسيحيي القارة العجوز، بما أن هذا الإسلام المعتدل وغير التكفيري سيكون أشبه بالمتحدث الرسمي باسم شريحة أوروبية مسلمة لا حلّ أمام الأوروبيين إلا بالانفتاح عليهم.
أما بالنسبة إلى نظرية أن تركيا فقيرة جداً لتكون أوروبية، فيترك حكام أنقرة الأمر في تكذيب ذلك للأرقام، بما أنّ هذه الدولة لم تعد بتاتاً فقيرة مقارنة ببعض الدول الأوروبية، كاليونان والبرتغال وبلغاريا ورومانيا مثلاً.
في المقابل، لا ينظر الليبرالي محمد ألتان إلى العودة التركية إلى الشرق والعالم الإسلامي نظرة إيجابية، بما أنّ العالم الإسلامي هذا يضم 57 دولة يعيش فيها نحو ربع سكان الأرض، «بينما حصّتهم من الإنتاج العالمي لا تتعدى 7 في المئة». من هنا، لا يرى ألتان في العالمين العربي والإسلامي إلا الفقر والديكتاتورية والجوع والتخلف والحروب، لذلك «هناك تناقُض بين مسعى الانتماء إلى أوروبا والعودة إلى الشرق». وفيما يعترف ألتان بأن العالم العربي ينتظر من تركيا أن تكون نموذجاً ديموقراطياً صالحاً للحكم عندهم، يعود ويأسف لواقع أن أردوغان وزملاءه «لا يفهمون هذا الأمر، بدليل أنهم يؤسلمون المجتمع ثقافيّاً». وبالتالي، بدل أن تقود تركيا العالم العربي والإسلامي، فإن العكس يحصل، بما أنها تنقاد لهؤلاء. وإذ يوافق الرجل على التوصيفات الإجراميّة بحق إسرائيل، إلا أنه يعود ليشدِّد على الديموقراطية الموجودة فيها، وبالتالي فإنّ لعب أردوغان ورفاقه على وتر معاداة إسرائيل للاستفادة من ذلك في صناديق الاقتراع هو «أمر مشين».
ويمكن العثور في تركيا على مجموعة كبيرة من الشخصيات الليبرالية واليسارية التي تتبنّى مضمون كلام أشخاص كمحمد ألتان. هؤلاء غير راضين عن أداء حزب «العدالة والتنمية» في الداخل كما في الخارج، ولا عن المعارضات الشرعية القائمة ضدّه، أكان اسمها حزب الشعب الجمهوري أم الحركة القومية التركية أم السلام والديموقراطية. لكنّ مشكلة هؤلاء هي أنّهم لا ينتظمون في أي تنظيم سياسي فاعل وظاهر على الساحة السياسية. فلا يزال العلويون، العلمانيون عموماً، يصطفّون بغالبيتهم في حزب أتاتورك، «الشعب الجمهوري»، بينما الأكراد محاصرون في بيئتهم الكردية، واليساريون الشيوعيون مقسمون في مجموعة من الأحزاب الصغيرة والهامشية، أو في تنظيمات متطرفة لا تزال تمارس العنف الثوري من وقت إلى آخر. هكذا يبقى الليبراليون التقدميون مشتّتين في جامعاتهم وصحفهم ومقالاتهم وأنديتهم الثقافية، من دون أن يكون لهم وزن سياسي مؤثّر فعلاً في مجرى الأحداث.



قبرص للجيش

لن يغفر الأتراك بسهولة الإهانة التي وجّهها إليهم الاتحاد الأوروبي في مطلع أيار 2004، عندما كافأ القبارصة اليونانيين بإعطائهم صفة العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي، مباشرة بعد رفض هؤلاء القبارصة اليونانيين لخطة كوفي أنان لتوحيد الجزيرة. إهانة لأن القبارصة الأتراك هم من وافقوا على استفتاء توحيد الجزيرة بغالبية 64.90 في المئة، وإذا بمَن وافق على الخطة الدولية يعاقَب، بينما يكافأ من قال «لا» بغالبية 76 في المئة، من خلال قبوله في اتحاد القارة العجوز. الجولة على مواقف المواطنين الأتراك من الموضوع تفضح المستور رسمياً: ليس علينا التنازل عن قبرص. وقد يكون الموقف من موضوع قبرص أحد الملفات التي تجد شبه إجماع لدى الأتراك. ويريد هؤلاء المحافظة على «قريتهم»، أي قبرصهم، وهي التي يجدون فيها مكاناً للراحة والاستجمام، وهم الذين لدى الكثير منهم أقارب وعائلات فيها، مدنيون وعسكريون لا يزالون يتمركزون على جبهاتهم القبرصية، في رسالة لساسة أنقرة مفادها أن قبرص ملف محجوز للجيش، فلا تمسّوا به.