إسطنبول | يُثبت مسؤولو حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، في كل مناسبة، أنهم يعرفون كيف يختارون التوقيت المناسب لطرح تقارير لمشاكل وحلول لأزماتٍ داخلية، بما يلائم مصالحهم الانتخابية تماماً. قبل يومين، ضرب الحزب وحكومته ضربتهما في ما يتعلق بالمسألة العلوية، عندما قدّمت الحكومة تقريرها الذي تعمل عليه منذ نحو عامين تحت عنوان حل الأزمة العلوية. تقرير جاء فيه اقتراح لحل بعض الأزمات التاريخية المستعصية مع العلويين البالغ عددهم ما يناهز 25 مليون مواطن، لكنه عجز عن تخطّي خطوط حمراء أخرى.
وفي المحصّلة، نال كل من توقيت طرح التقرير ومضمونه انتقادات كبيرة من العلويين خصوصاً، المنضوي الجزء الأكبر منهم في صفوف حزب المعارضة «الشعب الجمهوري»، على اعتبار أنّ طرحه جاء قبل نحو 70 يوماً من الانتخابات التشريعية المصيرية المقررة في 12 حزيران المقبل، وعلى قاعدة أنّ الحزب «صام سنتين وفطر على بصلة». بالمحصّلة، أقرّ التقرير ذكرى عاشوراء يوم عطلة رسمية، وإعادة النظر بمضمون الدروس الدينية التي تعطي فكرة مغلوطة عن العلويين، وأمر بمصادرة فندق ماديماك لتحويله إلى متحف يخلّد شهداء عام 1993، لكنه عجز عن الاعتراف بـ«بيوت جمع» العلويين (مساجدهم)، وهو بيت القصيد في المطالب المزمنة لهذه الفئة الكبيرة من الشعب التركي.
ولم يكن عمل اللجنة الحكومية، التي يرأسها وزير الدولة فاروق جليك، سهلاً، إذ إنها كانت تهدف إلى حلّ إحدى أكبر المشاكل الداخلية التركية أهمية، بعد المشكلة الكردية طبعاً. والصعوبة الأكبر بالنسبة إلى اللجنة، التي عملت لسنتين مع نحو 400 شخصية علوية من رجال دين وساسة وفاعليات من المجتمع المدني وصحافيين وأكاديميين، أنّ العلويين في تركيا منقسمون، ومطالبهم غير موحّدة، وبالتالي كان منطقياً أن لا تنال الحلول الحكومية رضاهم جميعاً، وخصوصاً أنّ هؤلاء محسوبون سياسياً على الأحزاب العلمانية اليسارية، وقلّما يجدون أنفسهم ممثلين من قبل إسلاميي «العدالة والتنمية». ومن أهم ما تضمّنه التقرير، الذي عرضه الوزير جليك، في مؤتمر صحافي يوم الجمعة في إسطنبول، النقاط الآتية:
ــ الاعتراف بذكرى عاشوراء يوم عطلة رسمية. ــ تخصيص رواتب للزعماء الروحيين العلويين. ــ تأليف لجنة لتصحيح المعلومات الواردة في الكتب الدينية التي تُدرَّس في المدارس والجامعات، وذلك بذكر الطائفتين الجعفرية والنصيرية (العلوية)، ويعيد الاعتبار لهم قانونياً وفق الدستور (الذي لا يعترف إلا بالمذهب السني الحنفي في تركيا). ومن المقرر وضع الكتب الدينية المدرسية الجديدة لتصبح جاهزة للعام الدراسي 2011ــ2012. ــ إلى جانب الدروس الدينية الإلزامية في المدارس، استحداث درس ديني اختياري يكون فيه للتعاليم العلوية الحصة الأكبر. ــ استملاك فندق ماديماك في وسط الأناضول (منطقة سيفاش)، حيث قُتل في 2 تموز 1993، 37 علوياً حرقاً خلال عقدهم خلوة، وهو ما يزال ماثلاً في المطالب التاريخية للعلويين، من حيث ضرورة إقفال الفندق وتحويله إلى متحف خاص بالعلويين، كتكريم للشهداء. لكن التقرير قرّر تحويل الفندق إلى مكتبة، لا الى متحف. ــ تنمية منطقة حاجي بكتاش، التي تُعدّ بمثابة عقر دار العلويين في تركيا، وإنشاء جامعة فيها تحمل اسم المنطقة، وتكون خاصّة بأفراد هذا المذهب. أما في مسألة بيوت الجمع (مساجد العلويين)، فقد بقيت الأمور على حالها من حيث عدم الاعتراف بها، وهو ما جعل معظم المتحدّثين باسم هذه الطائفة غير راضين بتاتاً عن مضمون التقرير الذي لم يعترف بمساجدهم، وترك بتّ الأمر للدستور الجديد الموعود، الذي ينوي «العدالة والتنمية» طرحه في حال فوزه بأرقام كبيرة في انتخابات 12 حزيران المقبل.
وبرّر جليك عدم اقتراح لجنته الاعتراف ببيوت الجمع، شأنها شأن مساجد المسلمين (السنّة الذين يتبعون المذهب الحنفي) وكُنس اليهود وكنائس المسيحيين، بالقول إنه «يُفضَّل أن يتم ذلك في الدستور الجديد الذي سيولَد بعد الانتخابات»، على قاعدة أن الدستور نفسه يحصر الاعتراف الرسمي بمساجد المسلمين السنّة. وقال عن هذا الموضوع إنّ «أيّ نوع من الاعتراف ببيوت الجمع يطرح أمامنا مشكلتين: الأولى ذات طابع ديني بحت، بما أنّه في الشريعة الإسلامية أماكن العبادة محصورة بالمساجد، وبالتالي فإن الاعتراف بنوع ثانٍ من دور العبادة سيؤدي إلى تعريفَين للإسلام». وتابع «أما المشكلة الثانية، فهي ذات طابع قانوني، وتتمثل بقانوني 1925 و1935 اللذين حظرا محافل الدراويش وألقاب البكتاشيين (من ديدي وبابا وشلبي)». وخلص الوزير إلى أنّ «أي حل لهذه الأزمات يجب أن يتزامن مع حلول لمشكلة الدستور ولقوانين عامَي 1925 و1935، وإلا فإنّ ذلك سيخلق مشاكل جديدة». واستبق جليك اتهامات المعارضة بالقول إنّ تعديل هذه القوانين والمواد الدستورية، قبل انتخابات حزيران المقبل، تحمل محاذير اتهامنا بفعل ذلك لأهداف انتخابية» تتعلق بكسب أصوات ناخبين علويين، «لذلك من الأفضل حلّ الموضوع جذرياً في إطار الدستور الجديد».
وفور نشره، ظهر أنّ التقرير أتى بردّ فعل معاكس لآمال الحكومة وحزبها بنيل رضى جزء من العلويين، على أمل أن يُصرَف ذلك في صناديق الاقتراع. فقد قامت حملة علوية كبيرة ضدّ مضمون هذا التقرير، رغم أنّ هذا لا يعني أن الحكومة تمكنت، من خلال إصدار توصياتها، من كسب فئات واسعة من هؤلاء. وقد يكون الحزب الحاكم أدرك باكراً أنّه لن يتمكن من نيل رضى علوي عام، منذ أن قاطع لجنته وورش عملها عشرات الأكاديميين وساسة وصحافيون ورجال الدين العلويون. وبعد ساعات من المؤتمر الصحافي الذي أعلن خلاله جليك مضمون التقرير، انتقدته مجموعة من المنظمات العلوية لأنه «مُعَدّ وفق وجهة سنية حنفية بعيدة عن السعي لإيجاد حلول حقيقية للمشاكل العلوية»، إضافة إلى أنّ «الحكومة تهدف من خلال التقرير إلى خلق دائرة من علويّي السلطة». وقال أحد أبرز وجوه منظمات المجتمع المدني العلوي، فوزي غوموش، إنّ «ما ورد في التقرير عن بيوت الجمع يجسد مثالاً واضحاً عن كيفية نظرة الحكومة للمذهب العلوي، وخصوصاً أنها أخذت بقرار أعضاء اللجنة من غير العلويين الذين طلبوا عدم الاعتراف ببيوت الجمع، وهذا يعني أن الحكومة توسّع حقوق علماء الدين السنّة باتخاذ القرارات المتعلقة بالطابع القانوني لبيوت الجمع».
أما بالنسبة الى مسألة تخصيص الزعماء الروحيين العلويين برواتب مالية شهرية، فإنّ غوموش وضعها في خانة محاولة وضع العلويين تحت سلطة «مديرية الشؤون الدينية» الحكومية التابعة لرئاسة الوزراء، وهي التي لا تعترف إلا بالطائفة السنية الحنفية في البلاد. ورفض غوموش رفضاً قاطعاً دفع الأموال لشيوخ العلويين، لأن هؤلاء «لم يكونوا يوماً رجال الدولة، ولن تتمكن الحكومة أبداً من السيطرة عليهم». وهنا تبرز مشكلة عند العلويين أنفسهم، إذ إن البعض منهم يرفضون بالكامل وجود «مديرية الشؤون الدينية»، على اعتبار أنها أداة لتدخل الدولة في شؤون الدين، بينما يرى الآخرون أنه يجب استحداث وحدة مستقلة وخاصة بالعلويين في قلب هذه المديرية.
كذلك الحال بالنسبة الى قرار إعادة النظر بمضامين الحصص الدينية المدرسية الالزامية، إذ يرى ممثلو العلويين أن المسلمين السنّة هم من وضعوا هذه الحصص، وبالتالي فإنها تعكس النظرة السنية لباقي المذاهب، وأن التعديل الحالي يهدف إلى «الاستيعاب والسيطرة» على التلامذة العلويين في المدارس الحكومية.
في المقابل، بالنسبة الى تحويل فندق «ماديماك» إلى مكتبة عامة تخلّد ذكرى الشهداء العلويين، فقد رأى فيها غوموش «وصمة عار»، وذلك تعليقاً على تبرير الوزير التركي لرفض تحويله إلى متحف، على قاعدة أن «المتحف سيُبقي الجرح مفتوحاً بدلاً من إقفاله، وهو ما من شأنه خلق مشاكل جديدة».
في النهاية، وبغض النظر عن الاعتراضات العلوية الكبيرة ضد مضمون «الإصلاحات» التي أتت بها اللجنة الحكومية المكلفة إيجاد الحلول اللازمة لهذه المشكلة، يخشى كثيرون من أن يكون التقرير مجرَّد ورقة انتخابية ترمي بها حكومة رجب طيب أردوغان على أعتاب الانتخابات لكسب بضعة آلاف من الأصوات العلوية الصعبة المنال عادةً، قبل أن تنام خريطة الطريق العلوية في أدراج البرلمان أو الحكومة ورئيسها، تماماً مثلما نامت «خطة الانفتاح الديموقراطي»، بعدما بشّرت أنقرة بأنها ستكون خاتمة أحزان القضية الكردية المستعصية على كل الحلول.



فاروق جليك

أرنست خوري

يُحسَب التقرير الذي خرج أخيراً عن اللجنة الحكومية التركية، لحساب وزير الدولة، منسِّق اللجنة، فاروق جليك (الصورة). وجليك وزير بلا حقيبة، لكنه من الوزراء الفاعلين في حكومة رجب طيب أردوغان، ومعروف عنه أنه أحد الوزراء «المسلمين جداً». ولأنه كذلك، كُلِّف منذ تعيينه، بالملفات الدينية الحساسة، وأبرزها قضايا مديرية الشؤون الدينية، والأزمة العلوية. وجليك، ابن مدينة بورصة الساحلية، صاحب مواقف سجالية في الحياة السياسية التركية. وهو، قبل نحو 3 أشهر، فجّر نقاشاً كبيراً، عندما رأى أنه لا يمكن الاعتراف بالحقوق الدينية الكاملة للعلويين، ولا ببيوت الجمع الخاصة بهم، «لأن ذلك مناقض على نحو فاضح للمبادئ الثورية التي أسّس مصطفى كمال الجمهورية على أساسها»، في ما عدّ في حينها تصريحاً نارياً هدف الوزير جليك من خلاله إلى نيل تأييد فئة ناخبة واسعة من القوميين الأتراك، ومن الناخبين المسلمين السنّة الرافضة لمساواة العلويين بهم. وإضافة إلى سجالاته الإشكالية بشأن العلويين، يبرز اسم جليك في قضية استقالة المسؤولة السابقة في «مديرية الشؤون الدينية»، عائشة سوجو، التي قيل إنها استقالت بضغط من الحكومة ووزير الوصاية على المديرية (أي جليك)، بعدما قضت نحو 15 عاماً في منصبها، وهي المعروفة بانفتاحها على فئات علمانيّة وملحدة حتّى.