باريس| عندما تسلّم آلان جوبيه وزارة الخارجية الفرنسية، كان ينظر في مرآة الواقع الدبلوماسي ليرى ما إذا كان الدور الذي سيؤديه في خضم ربيع الثورات العربية يمكن أن يترك أثراً في التاريخ، كما كان الأمر بالنسبة إلى الرئيس السابق جاك شيراك، الذي قال «لا» للحرب الأميركية في العراق.
إلا أن الظروف ورغبة الرئيس نيكولا ساركوزي في التخلص من العقيد معمر القذافي، بعدما بانت صعوبة قلبه عليه بواسطة تمرّد الثوار الليبيين فقط، جعلت أولى مهمات جوبيه في مجلس الأمن أن يقول «نعم» للحرب على ليبيا، وأن يقنع الأعضاء الدائمين المعارضين بعدم استخدام حق النقض، والأعضاء غير الدائمين بأهمية «حماية المدنيين».
نجح جوبيه في قلب مواقف أفريقيا الجنوبية ونيجيريا بالتصويت «مع»، وتليين موقفي روسيا والصين في الامتناع، ما ضَمن تسعة أصوات لإقرار القرار ١٩٧٣ الذي بموجبه يخوض الغرب اليوم ما يتفق الجميع على أنه تجاوز حدود ما يجيزه القرار، إذ إنه بات واضحاً أن الهدف هو «التخلص من القذافي».
ولتوضيح الصورة المهتزّة اليوم لدى الشارع العربي، وأمام «برودة الجامعة العربية» وعدم تهافت الدول العربية للمشاركة في الحملة، رأى جوبيه ضرورة «الكلام على دبلوماسية فرنسا الجديدة» تجاه العالم العربي. وهو ما يقف وراء تنظيم «منتدى الربيع العربي» في معهد العالم العربي في باريس.
جلس جوبيه محاطاً بعدد من «المفكّرين»، وجمع سفراء فرنسا لدى دول العالم العربي والسفراء العرب لدى فرنسا وأكاديميين وعدداً أكبر من الصحافيين، ليشرح كيف «لا يمكن حماية المدنيين مع بقاء معمر القذافي»، من دون أن يعني ذلك، حسب قوله، «أن إطاحة زعماء أصبحت هدفاً في السياسة الخارجية الفرنسية». وشدد على أن «سياستنا لا تهدف إلى تغيير الأنظمة». وعبّر أيضاً عن قلق باريس الشديد بسبب «أعمال العنف في اليمن وسوريا». ووجّه تحذيراً «ناعماً» إلى سوريا من «أن الموقف قد يتصاعد إذا لم يسنّ الرئيس بشار الأسد إصلاحات عاجلة». وأضاف رداً على أسئلة الصحافيين «تلك الدول يجب أن تدرك أنه لا طريق غير الحوار يوصل إلى استجابة واضحة لطموحات شعوبها والحاجة إلى التعبير عن أنفسهم بحرية كاملة». وعلى طاولة نقاش صباحية، أيّد جوبيه الإصلاحات التي أعلنتها الجزائر، باعتبارها خطوة في الاتجاه الصحيح، وصرّح: «أعلن الرئيس بوتفليقة عدداً من الإصلاحات، هذا يسير في الاتجاه الصحيح».
وحذر عدد من المشاركين في المنتدى من المخاطر التي تنتظر الانتفاضات العربية، فقال فرهاد خوسروخافار، الأستاذ في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، إن بعض الشعوب «بدأت تشعر بالإحباط»، ولا سيما في ليبيا، حيث الوضع مهدّد بسبب مراوحة المعارك وضعف الأمل في الأفق. ورأى أن «على الغرب مساعدة هذه الشعوب اقتصادياً»، حتى تتخطّى هذه المرحلة الانتقالية.
ونفى طاهر العدوان، الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية، «إمكان التفكير في تغيير في الدول العربية في غضون شهرين أو ثلاثة أشهر». وعاب على البعض «التفكير في أن ما حصل في مصر وفي تونس يمكن أن يحصل في بلدان أخرى». وشدد على أن «الأمور ليست كذلك». أما النائبة المغربية مباركة بوعيدة فقد أشارت إلى «تسارع الإصلاحات» في بلادها، ورأت أن على النظام الملكي الذي تعزّز دوره ضامناً للوحدة المغربية، «أن يغيّر صورته». الوضع التونسي كان حاضراً بقوة، إذ حذرت رئيسة الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، سهير بلحسن، التونسية الأصل، من أن «خطراً فعلياً يتهدّد تونس جرّاء الإحباط». وأشارت إلى وجود «مخاطر تهدّد الثورة التونسية»، أبرزها عدم تحقيق نموّ مع انعدام الأمن ووجود متطرّفين من جميع التوجهات، في إشارة إلى الإسلاميين. وقد أجابها بطريقة غير مباشرة محمد بن سالم، العضو في حزب النهضة الإسلامي التونسي، بقوله «إننا متردّدون بين الحماسة والقلق». وأوضح الخبير الاقتصادي غي سورمان أن إحلال الديموقراطية يتطلّب نسبة نمو تتراوح بين ٨ و١٠ في المئة، فيما نسبة النمو المتوقعة في تونس لعام ٢٠١١ لا تتجاوز «واحداً في المئة». ورأى البعض أن من غير المتوقع أن تغتنم أحزاب راديكالية فترة الغموض السياسي الحالية، على أساس أن «الحركة الديموقراطية ستهمّش الإسلاميين الراديكاليين»، وأن الثورات تساعد على بناء مجتمعات مدنية. وكان ردّ ممثّلي الأحزاب الإسلامية بأنهم يعدّون «مفاجأة للغربيين بمواقفهم الداعمة للديموقراطية». وردّ جوبيه على ذلك «فاجئونا. لا أطلب أكثر من ذلك»، داعياً إلى الحوار مع الحركات الإسلامية العربية التي تنبذ العنف وتقبل بقواعد اللعبة الديموقراطية.
وكانت الندوة مناسبة كي «تعتذر فرنسا عن سياستها السابقة». وقد ظهر ذلك جلياً في قول جوبيه «كنا متسامحين مع أنظمة استبداد لاعتقادنا بأنها الرادع الوحيد للإسلاميين»، وهو ما قادنا في بعض الأحيان إلى التغاضي عن «انتهاكات لحقوق الإنسان». واعترف أيضاً بـ«جهل فرنسا بالمجتمعات العربية»، وأن الربيع العربي أظهر أننا كنا بعيدين عن فهم جوانب كثيرة.
ويمكن اختصار الركائز الجديدة لسياسة فرنسا بالنقاط الآتية التي برزت في حديث جوبيه: 1ـــــ الدفاع عن حقوق الإنسان، كما نفعل في ليبيا، حسب قوله. ٢ـــــ توسيع رقعة التواصل مع المجتمعات المدنية. ٣ ـــــ تخصيص ٢٠ في المئة من المساعدات الخارجية لدول حوض المتوسط العربية. ٤ ــــ ربط هذه المساعدات بـ«شروط ذكية» للحثّ على الإصلاحات. 5ـــــ إعادة إحياء «الاتحاد من أجل المتوسط» وتزكيته بإنشاء «مكتب للشباب المتوسط».
إن دلّت هذه الركائز الجديدة على شيء فهي أن جوبيه لم يفقه شيئاً من الربيع العربي، وهو يسعى إلى ترقيع الدبلوماسية الفرنسية بلباس برّاق جديد، بينما ينتظر منه الشارع العربي دبلوماسية جديدة.



الحسابات الانتخابيّة

مهما كانت التعابير المستعملة، فإن فرنسا تخوض حرباً في ليبيا، إذ يتبيّن من قراءة كافة التقارير والبيانات العسكرية أن باريس ولندن تتحملان الشقّ الأكبر من المجهود العسكري، وأن انسحاب واشنطن أبرز ضعف الحلف الأطلسي «بغياب الشقيق الأكبر العم سام». الجميع بات يدرك اليوم أن القصف الجوي لم يعد كافياً لإخضاع الزعيم الليبي معمر القذافي في خلال فترة مقبولة، قبل أن ينقلب الرأي العام العربي وبعده الغربي، وخصوصاً أن عدداً من زعماء الدول الغربية المشاركة في الحملة أمام تحديات انتخابية في السنة المقبلة، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي (الصورة)، الذي حسب أكثر من مصدر «يرى في التدخل الفرنسي في الربيع العربي» فرصة لرفع شعبيته. يشار إلى أن ٥٨ في المئة من الفرنسيين يؤيّدون دوافع التخلص من الديكتاتويات العربية، إلّا أن أيّاً من الاستفتاءات لم يسأل المواطن الفرنسي رأيه في الوسائل المعتمدة، بعدما كشفت الأرقام أن الحرب في ليبيا تكلّف فرنسا ما يفوق مليون يورو يومياً، عدا المساعدات الغذائية المعلنة وغير المعلنة.