سيول | لم يكن وصف الشعب الكوري بالشعب «الآلي» مجانباً للصواب؛ إذ تجلّت موهبة هذا الشعب من خلال صناعاته المُتميزة على أكثر من صعيد، ولا سيما الإلكترونيات، من كمبيوترات وأجهزة اتصال وتلفزيونات ذكية تجاوزت في تطورها أهمية تلك الأجهزة الثلاثية الأبعاد.
موهبة كوريا، التي شهدت معجزة القرن العشرين رغم خروجها من حروب أنهكت الحجر والبشر والشجر، تتجلّى في نظام الحياة الفائق الدقّة. تنظيم يبدأ من الالتزام بالمواعيد اليوميّة، وصولاً إلى «سيستام» المدينة القائم على مواصلات عصريّة لا يحتاج معها الشعب إلى الكثير من رجال الشرطة لتنظيم السير، ولا ترتبك أمور الموظفين بسبب خلل في مواعيد وصول القطارات أو الحافلات.
بدا هذا «المكتوب» واضحاً من عنوانه، حين وزّع المنظّمون من القوات الكورية العاملة في جنوب لبنان برنامج رحلة «عبر البحار» بالتفاصيل المُملّة على الوفد اللبناني المؤلف من 16 فرداً. المفاجأة كانت في تطبيق هذا البرنامج بحذافيره، إلا في ما عدا الأمور الخارجة عن إرادة المنظمين. كان يمكن القول إن المنظّمين من العسكر، وبالتالي فالانضباط من شيم هذه الفئة من الناس، لكن متابعة الحياة اليومية للكوريّين، أثناء الإقامة لعشرة أيام في سيول، مكّنت الوفد الزائر من التعرّف عن كثب إلى ذهنية علمية منظّمة تشبه نظيرتها اليابانية، التي كانت رمزاً لاستعمار كوريا في حقبات عديدة من تاريخ شبه الجزيرة الآسيوية.
طبعاً لا يمكن الحديث عن جمهوريّة فاضلة بهذا المعنى، ولا يمكن القول إن الشعب الكوري برمّته يتمتع بذكاء خارق يجعله من فئات العباقرة؛ ففي جولة سريعة على شوارع سيول وأحيائها، قد تجد السارق والكاذب والمُنافق، ومطاعم لا تتوافر فيها أدنى شروط الصحة. هو مثل أي بلد في العالم، قد تقع على أحياء شعبية بيوتها قائمة على نحو عشوائي وطرقاتها من دون إسفلت. أو قد تصادفك مشاهد من القمامة المكوّمة على قارعة الطريق. كل هذا يمكن أن تشاهده في العاصمة الكوريّة، لكن ما لا يمكن رؤيته في البلاد العربيّة، هو أن الشوارع لا تشهد عدداً كبيراً من شرطة تنظيم السير، بسبب وجود آلات التصوير التي تُلاحق المخالفات حتى في الزواريب الصغيرة.
يمكن التعرّف إلى هذه التقنية من خلال زيارة لمركز تنظيم السير وسط سيول. ويستطيع المراقب هناك معاينة تحرير المخالفات في حركة السير عن كثب؛ قاعة كبيرة مزودة بنحو 50 شاشة كمبيوتر مكتبية، إضافة إلى شاشات حائط ضخمة مقسّمة إلى مشاهد عدة، يمكن من خلالها نقل ما يجري في طرقات سيول وشوارعها بالتفصيل. عشرات الموظفين المدنيين يعملون في كل نوبة من نوبات العمل الثلاث، التي تستمر 24 ساعة في اليوم، يتابعون كل مخالفة من خلال الكاميرات ويحرّرونها بحق صاحب السيارة عبر تقريب المسافة نحو رقم السيارة وتسجيلها وإرسالها إلى الدائرة المُختصّة، أو إلى هاتف صاحب العلاقة ليدفعها.
وينقسم الموظفون إلى فرق، إحداها تتابع حركة سير السيارات السياحية، وأخرى تختص بالحافلات، في عاصمة يتحرك فيها يومياً نحو 8.8 ملايين نسمة من خلال وسائل المواصلات المتوافرة، من سيارات أجرة وحافلات وقطارات أنفاق، مجهّزة بأحدث التقنيات. ويزود المركز السيارات بخدمة «GPS»، وهي إحدى الوسائل الإرشادية المُهمة للسائقين.
ولعل أبرز المعالم الحديثة هو المدينة الإعلامية الرقمية «DMC» في ساحة ناريكو (وسط سيول)، حيث ينتصب مبنى شاهق شبيه بهوائيات المحطات الإذاعية بطول640 متراً، بما فيه البرج وست طوابق أرضية و133 طابقاً فوق الأرض. في هذا المجمع الضخم، الذي يمتد على مساحة 724.675 متراً مربعاً، العديد من الأقسام، منها الجناح الرقمي الذي يضم معرضاً لتقنيات الإنترنت ووسائل تكنولوجية حديثة. وفي مركز المحتويات الثقافية مكتبة إعلامية ومتحف للأفلام الكورية والأشرطة السينمائية من الشرق والغرب «سينماتيك».
كذلك يمكن في المدينة الرقمية التواصل مع عوالم الثقافة في سيول والعالم. وهناك العديد من الغرف والأجنحة المزوّدة بكاميرات تصوير ومشاهد جميلة تتحرك بالتقنيات الرقمية وأماكن لتسلية الأطفال، إضافة إلى عروض شرائط بتقنية الأبعاد الثلاثة.
أما في مبنى نظام البث الكوري «KBS» أو التلفزيون الكوري، فقد تحوّل المكان إلى متحف في جزء منه، وفي جزء آخر يمكن الزائر أن يختبر طلاقته في تقديم نشرة أخبار أو برنامج عبر استوديو تجريبي مزوّد بشاشات ومعدّ لهذه الغاية. وفي جولة على هذا المبنى يمكن اكتشاف المدى التقني المتقدم والتجهيز الرائع في مستويات العمل التلفزيوني، إضافة إلى أجنحة تعرض التجهيزات والملابس التي كانت تُستخدم في أفلام ومسلسلات سابقة.
لعل اختصار مشهد العاصمة الكورية، يكون من خلال زيارة برج سيول القائم على تلة يمكن من خلالها رؤية العاصمة بجوانبها الأربعة. هو أحد أهم مناطق الجذب السياحية في كوريا. بدأ بناء هذا البرج في عام 1969، وافتتح للجمهور في عام 1980، وكان يُعرف باسم برج نامسان.
يبلغ طوله 479 متراً عن مستوى البحر، و236.7 متراً من القاعدة. يمثّل هذا البرج أحد معالم كوريا الحضارية وإنجازات مبدعيها الفنية، ويتضمن مطعماً ومقهى وصالة مزودة بمناظير تعمل بالعملة المعدنية واستوديو للتصوير مع خلفية صورة البرج، وفي الأسفل وسائل ترفيه وتسلية وأسوار عُلّقت عليها عشرات آلاف الأقفال، التي تجمع أسماء العشاق.
لا مجال للحديث عن الصناعات الإلكترونية الكورية التي غزت الأسواق العالمية، من أجهزة كمبيوتر وهواتف نقالة وتلفزيونات. لقد تطورت أجهزة الإلكترونيات الحديثة إلى مستوى أصبحت معه سيول من العواصم التي اقتحمت عصر التكنولوجيا. ولعل ما كشفت الحكومة النقاب عنه خلال الاجتماع التنسيقي الاقتصادي الأسبوعي الذي عقدته في 6 نيسان الماضي، يبيّن حجم الاستثمارات في المجال التقني.
لقد أكدت الحكومة الكورية خططها لاستثمار 54,3 مليار وون (49,8 مليون دولار) هذا العام، لمساعدة الشركات المحلية على المحافظة على تفوقها في سوق التلفزيونات الذكية على مستوى العالم، حسبما ذكر موقع «كوريا» السياحي على الإنترنت.
وستعمل وزارة الاقتصاد المعرفي وهيئة الاتصالات الكورية ووزارة الثقافة والرياضة والسياحة معاً لبناء محتويات تناسب التلفزيونات الذكية بهدف اجتذاب اهتمام العملاء لإقامة بنية أساسية ناجحة على شبكة الإنترنت. وستركز الحكومة على تطوير برامج جديدة للتلفزيونات الذكية وتكنولوجيات للشبكات مثل الواجهات الخاصة بالمستخدمين.
وتعمل شركتا «سامسونغ» و«إل.جي» معاً لتقوية تكنولوجياتهما الخاصة بالتلفزيونات الذكية التي تنتجانها، وذلك لتوسيع نطاق أسواق التلفزيونات الذكية أمامهما. وهذا النظام السحري للتحكم عن بعد سهّل الاستخدام، بفضل وجود خمسة أزرار ونقطة للإطلاق والتحكم.
وفي مجال الحفاظ على البيئة، تحاول سيول تحقيق الشروط البيئية التي تتناسب مع احترام اتفاقيات المناخ العالمية، ولهذه الغاية وافقت الحكومة الكورية على تدعيم ألف شركة ومؤسسة متخصصة في الصناعات الخضراء في مجال تصنيع المكونات والأجزاء قبل عام 2013. وأعلنت إدارة الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهي الوكالة الحكومية الكورية على المستوى الوزاري التي تدعم هذه الشركات، في خططها مساعدة الشركات الخضراء.
وفي ما يتعلق بالطاقة المُتجددة، ينتج نظام الطاقة الضوئية المتكامل الجديد في المباني المعروف اختصاراً باسم «BIPV» الطاقة باستخدام مواد بناء خاصة تؤدي وظيفة تجميع الطاقة الشمسية.
وتعمل الحكومة الكورية والشركات المحلية معاً لتطوير تكنولوجيا لتوليد الطاقة من طريق استخدام الطاقة المتجددة لتحل محل الأنواع التقليدية من الوقود الحفري، حسبما يوضح موقع «كوريا.نت».
وفي المنازل، يمكن نظام «BIPV» توفير المساحات وتكاليف التركيب باعتبار أنه يستخدم الجدران الخارجية والأسطح والنوافذ والمزارع في توليد الطاقة الكهربائية اللازمة للمبنى.
وأخيراً زُوِّد عدد من المباني الجديدة بأنظمة «BIPV»، وشهد التحرك نحو استخدام هذا النظام ازدياداً متسارعاً، وبخاصة في أوروبا، باعتبار أن الطاقة الشمسية أمر شائع فيها، وكوريا هي الأخرى كذلك.
وبدأت العديد من المعاهد والجامعات في تنفيذ الأبحاث المرتبطة بتكنولوجيا «BIPV» منذ عام 2001 ، وذلك عندما بدأ المعهد الكوري لأبحاث الطاقة للمرة الأولى في تنفيذ مشروعاته الخاصة بتكنولوجيا BIPV.



الحياة السياسية

شُرِّع أول دستور لكوريا الجنوبية على الطراز الغربي في السابع من تموز عام 1948 وانتخبت الجمعية الوطنية التأسيسية لي سونغ مان، أول رئيس للجمهورية لمدة أربع سنوات.
وفي تعديل الدستور للمرة التاسعة عام 1987 الذي جرى بالاتفاق بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة لأول مرة في كوريا، أُقرّ نظام الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية (فترة واحدة لمدة خمس سنوات)، وباتت تتبع النظام الجمهوري، والرئيس الحالي هو لي ميونغ باك، الذي تسلم مقاليد الحكم في بداية عام 2008، وهو من حزب الوطن الكبير. وتتكون الحكومة من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء إلى جانب 18 وزارة و16 دائرة. وفي 1 كانون الثاني 2007 أصبح السياسي الكوري بان كي مون، أميناً عاماً للأمم المتحدة.