أبرزت الثورات العربية روسيا على مثال ذلك التلميذ المشاغب والمتذمر في الصف، وسط مجموعة من المتفوقين المتآلفين بعضهم مع بعض ومع أساتذتهم. إنها لا تتوقف عن انتقاد التدخل الخارجي في ليبيا. هي تكرّر عبارة التدخل الخارجي على نحو يدعو إلى التساؤل: كيف تنظر روسيا إلى الثورات العربية؟ هل تراها عفوية تنبع من قهر وظلم تغلغلا في نفوس الشعوب العربية حتى حانت لحظة الانفجار؟ أم هي خطة أعدّها ذاك «الخارج»، وقد تطرق أبوابها الخلفية والداخلية؟
منذ بدء الثورات، آمنت روسيا بنظرية «المؤامرة». وجاءت تصريحات بعض المسؤولين الروس لتعبّر عن الأمر بصورة مباشرة وغير مباشرة. الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف قال إن «الثورات في العالم العربي كانت بتحريض من قوى خارجية، كانت قد تآمرت لتخريب روسيا». وأضاف «لن أسمّي لكنها مجموعة كبيرة من البلدان، حتى تلك التي لدينا علاقات ودية معها. مع ذلك، تورطوا في الإرهاب في القوقاز»، فيما حث رئيس الوزراء فلاديمير بوتين الدول الغربية على الامتناع عن التدخل في الثورات في العالم العربي. وقال «يجب أن تتاح للناس الفرصة لاختيار مصائرهم ومستقبلهم من دون أيّ نوع من التدخل الخارجي».
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أعلن، بدوره، أن بلاده تعارض محاولات الضغط الخارجي للتأثير في الأحداث التي تشهدها دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، داعياً إلى «التعاون والتنسيق على نحو بنّاء بين المجتمعين الدولي والعربي في مسألة الدفع بالتحولات الديموقراطية، وحل المشكلات الأكثر إلحاحاً الماثلة أمام بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».
رأسا روسيا ووزير خارجيتها تحدثوا عن التدخل الخارجي في الثورات. مدفيديف ذهب أبعد من ذلك. صنّف المتآمرين على العالم العربي والمتآمرين على بلاده في خانة واحدة. وهنا، تعود إلى الأذهان حكاية «الثورات الملوّنة» في كل من جورجيا وأوكرانيا. هذا الربط ربما أقلق روسيا، وجعل صحفها تطرح تساؤلات عن احتمال انتقال الثورات إليها، أو إلى حدائقها الخلفية، وإن تفاوتت الآراء بين مطمئنّ وقلق.
المحلل السياسي في صحيفة «بارلامنتسكايا غازيتا»، فلاديمير كولاكوف، قال إن الغرب يستغل الأحداث في المنطقة العربية لتحقيق أهداف مبيّتة، مشيراً إلى أن «قرار مجلس الأمن عن ليبيا (1973) ينص فقط على إغلاق المجال الجوي الليبي في وجه طائرات القذافي، لكن الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فسّر ذلك القرار بحسب مزاجه وشنّ حرباً حقيقية على ليبيا». وحذر مـن أن «هذا المشهد يمكن أن يتكرر في أيّ مكان في العالم، بما في ذلك مع روسيا نفسها. فكثيراً ما تصدر عن الغرب تصريحات تمثّل في حقيقتها تدخلاً سافراً في الشأن الداخلي الروسي. وليس من المستبعد أن يقدم الغرب يوماً ما على دعم المعارضة الروسية بالطريقة نفسها. لذا، فإن روسيا مدعوة اليوم إلى اتخاذ موقف حازم تجاه كل أشكال الاستخفاف بسيادة الدول».
لكن هل روسيا مهيّأة حقاً لثورة؟ في 9 نيسان الماضي، شهدت العاصمة موسكو، بحسب صحيفة «نوفيي إزفيستيا»، «يوماً آخر من أيام الغضب التي تنظّمها بعض القوى السياسية الروسية بين حين وآخر». شارك في التظاهرة نحو ألف شخص من أنصار «الجبهة اليسارية» وغيرها. قد يكون خبر التظاهرة هذه أكثر من عادي، لكنّ التظاهرة اكتسبت قيمة مضافة على خلفية الثورات الجارية في العالم العربي. فماذا لو كان هؤلاء الألف شخص مجرّد مقدمة؟
أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة «نوفيي إزفيستيا»، أن ثلثي المواطنين الروس لا يهتمون بالنشاط السياسي والاجتماعي. ونقلت الصحيفة عن خبراء قولهم إن «السبب الرئيسي للعزوف عن السياسة يعود إلى غياب المنافسة السياسية الحقيقية في المجتمع الروسي». ويتابع الخبراء «الناس في السابق غالباً ما كانوا يبرّرون عزوفهم عن الحياة السياسيّة بعدم جدوى الانخراط فيها. أما اليوم، فيعزون هذه الظاهرة إلى عدم اهتمامهم بالسياسة عموماً، وكذلك لثقتهم بأن أيّ جهد يبذلونه في هذا الميدان لن يؤدّي إلى شيء ذي بال».
ويفسر ليونيد بيزوف هذا الوضع بظهور جيل جديد حل محل جيل المسنين، الذين عاشوا مرحلة النهوض السياسي أواخر القرن الماضي. ويوضح أن شباب اليوم يفضلون الانصراف إلى شؤونهم الخاصة، بدل ممارسة السياسة التي لا تقدّم ولا تؤخر، حسب اعتقادهم.
هذا الكلام لا يعبّر عنه بيزوف وحده، بل يسود هذا الشعور بالاطمئنان داخل الأوساط الرسمية الروسية، لكن هذا ليس سبباً وحيداً. يقول المتخصص في الشأن الروسي، ديمتري ترينين، إنه «من غير المرجح أن تنتقل الثورات العربية إلى روسيا.
فمن المستبعد أن يتأثر الروس بالعرب الذين ينتمون إلى ثقافة مختلفة تماماً»، مستذكراً الثورة البرتقالية في أوكرانيا التي كانت قريبة جداً إليهم (الروس) ولم يتأثروا بها. ويتساءل «ألم يُسقط الشعب الروسي منذ 20 عاماً فقط، النظام الشيوعي من أجل الديموقراطية؟». ويضيف «منذ ذلك الحين، نما لدى العديد من الروس شعور بالحذر من الثورات العامة التي غالباً ما تنتهي إلى الفوضى».
لكن ترينين أبى أن يضع يديه في ماء بارد تماماً، إذ أشار إلى أن «هذا لا يعني أن روسيا بمنأى عن الغضب. ويستند إلى رئيس لجنة مجلس الدوما للشؤون الخارجية، كونستانتين كوساشيف، الذي قال إنه يجب على روسيا أن تستفيد من الانتفاضات العربية، من خلال إنهاء حكم الحزب الواحد، والتأكد من أن السياسات الحكومية تسهم في تحسين حياة الناس».
بدوره، يقول المتخصص في الشأن الروسي، أديب السيد، لـ «الأخبار» إن القيادة الروسية تعمل على الاستماع إلى مطالب شعبها وتنفيذها، مشيراً إلى وجود متابعة يومية لمشاكل الأقاليم كافة. والدليل على ذلك زيادة الرواتب التقاعدية ثلاث مرات خلال عام ونصف عام.
وبعيداً عن روسيا، يفتح ترينين الباب أمام البقعة المهددة بالانفجار في إحدى حدائق روسيا الخلفية. يقول: «يجب على روسيا التركيز على منطقة آسيا الوسطى. خلال السنوات العشرين الماضية، كان على موسكو التعامل مع حرب أهلية دموية في طاجيكستان، والثورات في قيرغيزستان، والتغيير المفاجئ للطاغية في تركمانستان»، مضيفاً إن «ما يلوح في الأفق يمكن أن يكون أكبر بكثير». وأضاف «أصبح واضحاً تماماً أنه لا الرئيس الأوزبكستاني إسلام كريموف (73 عاماً)، ولا نظيره الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف (71 عاماً)، القابعان في الحكم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، راغبان في وضع الترتيبات اللازمة لنقل منظَّم للسلطة. هذا لا يبشر بالخير بالنسبة إلى الاستقرار في المنطقة».
تضم منطقة آسيا الوسطى جمهوريات أوزبكستان، كازاخستان، طاجيكستان، قرغيزستان، وتركمانستان. وتتفشّى داخلها المشاكل الاقتصادية والسياسية والإثنية. على سبيل المثال، شهدت قرغيزستان العام الماضي عصياناً مدنياً بسبب الاستياء الشعبي من الرئيس كرمان بك باكييف، لأنه يمارس سياسة الحد من الحريات الاقتصادية والديموقراطية. فقام المتظاهرون بالانقلاب على الحكومة في مدينة تالاسيوم في 6 و7 نيسان، ما أدى إلى مقتل 74 شخصاً وإصابة 500 آخرين. وألّف زعماء المعارضة الذين سيطروا على العاصمة بشكيك حكومة انتقالية برئاسة روزا أوتونبايفا.
ليس ترينين وحده من لفت إلى تخوف روسيا من انفجار في آسيا الوسطى. السيد أيضاً تحدث عن هذا القلق الروسي، وخشية أن تكوّن جمهوريات آسيا الوسطى القريبة من أفغانستان المضطربة هلالاً إسلامياً. وفي رأيه، يعود سبب هذا الخطر إلى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية التي لا تخلو من مشاكل إثنية وطائفية كثيرة. وأشار إلى أن التركيبة الاقتصادية والاجتماعية لهذه المنطقة شبيهة بالأنظمة العربية، لكن هل بدأ الروس العمل على الحيلولة دون تخبّط جزء من فضائهم الاستراتيجي؟
«نعم». يقول السيد. بدأت روسيا تعمل على تدارك احتمال انفجار الأوضاع في آسيا الوسطى. وهي تعمل من خلال منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم كازاخستان والصين وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان، على زيادة الاستثمارات في المنطقة بهدف القضاء على البطالة.
ويلفت السيد إلى «المشاكل الإثنية والطائفية الموجودة في هذه الدول. فعلى سبيل المثال، شهدت طاجيكستان مواجهات مع متشديين إسلاميين لم تنته إلا بمصالحة وطنية وبإشراكهم في السلطة». إلا أنه يرى أن المحاولات الروسية لإنقاذ الوضع لا تزال غير كافية، لكن السؤال هو: هل روسيا قادرة مالياً على صرف المبلغ الكافي للحؤول دون تمرد منطقة آسيا الوسطى؟ الجواب هو لا.
ولا يبدو الوضع في شمال القوقاز مشابهاً لمنطقة آسيا الوسطى، حيث نجحت روسيا في تحويل الشيشان، إحدى دول هذه المنطقة، إلى مركز اقتصادي محوري، بحسب السيد. وأضاف إنه جرى عزل الجماعات الدينية المتشددة والمسلحة، التي تلجأ أحياناً إلى العمليات الإرهابية لزعزعة الاستقرار وضربه.
تبدو روسيا أمام تحدٍّ حقيقي، تعمل على تداركه رغم أن حدساً ما يقول لها إن التمرد لن يحدث، مهما يكن، الوقت دائماً كفيل بالإجابة عن التساؤلات، لكن على روسيا ألا تستسلم لحدسها، فالوقت قد يكون ضدها في نهاية المطاف.



تصفية زعيم «القاعدة» في الشيشان


أعلنت أجهزة الاستخبارات الروسية أنها قتلت ناشطاً سعودياً في الشيشان يوم الجمعة الماضي، تبين أنه «الممثل الأعلى لتنظيم القاعدة»، والمسؤول عن اعتداءات عدة في روسيا. ونقلت وكالات الأنباء الروسية عن لجنة مكافحة الإرهاب لدى أجهزة الأمن الروسية، قولها إن «ثلاثة متمردين بينهم سعودي قتلوا الخميس الماضي خلال عملية في مقاطعة شالي (شرق الشيشان)».
وقالت اللجنة إنّ «أحد المتمردين تبيّن أنه المبعوث الأعلى للمنظمة الإرهابية الدولية تنظيم القاعدة ويدعى مهند». وكان مهند زعيم حرب نافذ «شارك على نحو مباشر في الإعداد لجميع العمليات الانتحارية في روسيا في السنوات الماضية»، بحسب المصدر نفسه. وأكدت اللجنة أنّ مهند كان «منافس أمير القوقاز» دوكو عمروف الذي يقود التمرد.
(أ ف ب)