بعد فترة من الركود ألقت بظلالها على السودان، عادت الساحة السياسية لتشتعل على مختلف الجبهات. ففي الشمال، خرجت خلافات حزب المؤتمر الوطني إلى العلن للمرة الأولى منذ فترة طويلة، لتتردد أصداؤها في مختلف أرجاء البلاد. وعلى الرغم من مرور قرابة شهر على إقالة المستشار الرئاسي، صلاح قوش، بعد تصاعد الخلاف بينه وبين نائب رئيس الحزب الحاكم، نافع علي نافع، فإن الحديث يتزايد عن تفاقم أزمة البيت الواحد مع تضارب المعلومات بشأن مصير قوش من جهة، وتسرب معلومات عن أن حملة الإقالة ستمتد لتطال وجوهاً عديدة داخل الحزب ترجح على نحو نهائي كفة تيار نافع. أما في دارفور، فلا يزال التعثر يصيب مفاوضات السلام المستمرة في الدوحة، فيما أنباء المعارك بين القوات الحكومية والحركات المتمردة لا تكاد تتوقف حتى تشتعل من جديد، وسط سعي الحركات المسلحة إلى إعادة تنظيم صفوفها، بعد إعلان «حركة تحرير السودان» بزعامة مني أركو مناوي، الذي كان يشغل منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية، الانسحاب من اتفاق أبوجا والعودة إلى حمل السلاح من جديد.
وفي الجنوب، الذي يقترب من موعد إعلان انفصاله الرسمي في السابع من تموز المقبل، تواصل التطورات السياسية والعسكرية في إضفاء المزيد من الشكوك حول قدرة الحركة الشعبية لتحرير السودان على إدارة الدولة الوليدة ومواجهة التحديات التي تنتظرها، في ظل استمرار خلافها مع الأحزاب الجنوبية من جهة، وعدم حل المشاكل العالقة مع الشمال من جهةٍ ثانية.
ومن هذا المنطلق، لم يكن إعلان تجدد الاشتباكات في منطقة أبيي بين الجيش الشعبي وقوات الجيش السوداني، وصولاً إلى إعلان الأخيرة السيطرة عليها بعد إعلانها «منطقة حرب» بالمفاجئ، بعد انسداد أفق المفاوضات السياسية حول حسم تبعية المنطقة بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان.
إلا أن تفجير الجيش الشعبي الوضع من خلال نصبه كميناً لقوة تابعة للجيش السوداني أثناء انسحابها من إحدى مناطق أبيي، برفقة قوات من الأمم المتحدة، أثار تساؤلات عن أسباب هذه الخطوة، ولا سيما بعدما ثبت أنها غير مدروسة وسمحت للقوات الشمالية بفرض سيطرتها بسرعة على كامل المنطقة.
وفيما تحدثت مصادر عن أن الحركة لم تتعمد إشعال التوتر، وأن الأمر كان مجرد حادثة تورط فيها بعض من عناصر الجيش الشعبي، وهو ما دفع حكومة الجنوب إلى التأكيد أن سيطرة الشمال على أبيي «اجتياح غير مشروع ينتهك كل اتفاقيات السلام ويعرض للخطر حياة آلاف المدنيين»، يبدو أن الحكومة السودانية سارعت إلى استغلال هذا الخطأ لفرض أمر واقع جديد في أبيي يسمح لها بالتفاوض مع الحركة الشعبية من موقع القوة، بعدما نجحت في قلب الموازين العسكرية في المنطقة. وظهر هذا التوجه جلياً أمس مع مسارعة وزير الدولة السوداني، أمين حسن عمر، إلى التشديد على أن «الجيش السوداني سيبقى في أبيي لحين التوصل الى ترتيبات جديدة»، مع تأكيده استعداد حكومة السودان للتفاوض، بعد صدور ردود فعل دولية منددة بسيطرة الجيش على أبيي وإصدار الرئيس السوداني، عمر البشير، قراراً بحل مجلس منطقة أبيي وإقصاء المسؤولين عن إداراتها الخمس.
إلا أن هذا التفاوض لا يمكن المراهنة على أنه سيكتب له النجاح، ما لم يبدِ طرفا النزاع استعدادهما لتقديم تنازلات وبالأخص الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تتعدى أزمة أبيي بالنسبة إليها الرغبة في الاستحواذ على آبار النفط الموجودة في المنطقة، والتي يرجح جفافها خلال سنوات معدودة، لتتركز على عدم قدرة الحركة على الانفصال، وأن تترك وراءها المنطقة التي ينتمي إليها معظم قادة الحركة.
في غضون ذلك، من المرجّح أن تؤدي هذه التطورات إلى ازدياد حالة التخبط التي تعانيها الحركة الشعبية التي باتت ترى أنها «ضحية» للثورات العربية، بعدما قلصت المتغيرات الإقليمية، من وجهة نظرها، من حجم الاهتمام الأميركي بمعالجة أوضاع السودان.
فبعدما كان الاهتمام الأميركي منصبّاً على السودان قبيل أشهر من فترة استحقاق الاستفتاء، أتت ثورة الكرامة في تونس وما تلاها من أحداث في عدد من الدول العربية، لتجعل الاهتمام الأميركي بالوضع في السودان يتراجع إلى المرتبة الثانية، بعدما كانت له الأولوية.
وفيما كان الحزب الوطني الحاكم يحصد ثمار اعترافه بالاستفتاء من خلال شروع الإدارة الأميركية باتخاذ التدابير اللازمة لرفع اسمه عن الدول الراعية للإرهاب، وانطلاق البحث جدياً في مسألة إعفائه من الديون المتراكمة عليه، كان شعور الحركة الشعبية بالتهميش يزداد، ولا سيما أن نجاحها من خلال الاستعانة بمجموعات الضغط الأميركية باستبدال المبعوث الأميركي السابق سكوت غرايش، الذي اتهمته مراراً بالانحياز لحزب المؤتمر الوطني، لم يبدل الكثير من واقع الانخراط الأميركي مع الحكومة السودانية.
ورغم دخول المبعوث الجديد، برينستون ليمان، على خط محاولات التوصل إلى حل، إلا أن التعثر يبقى عنواناً لمختلف المفاوضات القائمة بين شريكي الحكم، سواء تلك التي تديرها لجان مشتركة من الطرفين داخل البلاد أو تلك المستمرة في أديس أبابا برعاية أفريقية أميركية مشتركة، وذلك بالتزامن مع ارتفاع منسوب التوتر في الجنوب أيضاً، ما يهدّد باشتعال الوضع برمّته.