في كل مناسبة تبرز فيها تركيا كقوّة اقتصادية وسياسية صاعدة على الساحتين الإقليمية والدولية، يُعاد التذكير بـ«الآية» الأحبّ إلى قلوب الليبراليين: ليس هذا سوى نتيجة لمرحلة الشفاء التي تعيشها الديموقراطية التركية من أمراض عهد حكم العسكر والحزب الواحد قبلها. ولم يكن ينقص الأتراك إلا مجيء الربيع العربي، لتسمعهم يكررون ما مفاده «كنّا محقّين عندما خضنا معركة الديموقراطية، لأن الزمن أثبت أنه آن أوان الديموقراطية والحرية التي خضناها منذ 2002، ولنكون مثالاً يُحتذى». تستعد هذه الديموقراطية التركية، وإن كانت مصابة بألف مرض وعطب، لترجمة نفسها في انتخابات 12 حزيران المقبل التي تتقاطع القراءات على وصفها، بأنها ستكون الأهم في التاريخ الحديث للانتخابات التعددية في تركيا. الأهم ليس لأنّ المنافسة على أشدّها بين الأطراف المتنافسة، بل لأنّ حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في أنقرة ينوي تحويلها إلى استحقاق مصيري مع استعداده للفوز بولاية ثالثة متتالية، ليكسر رقماً قياسياً غير محقَّق منذ زمن عدنان مندريس وحزبه «الديموقراطي» قبل نصف قرن. فقد عمل «حزب اللمبة» (شعار حزب العدالة والتنمية) منذ سنوات على تهيئة الأتراك نفسياً، ودعوتهم الى تحمُّل مسؤولياتهم إزاء انتخابات حزيران 2011، على قاعدة أنّ نتيجتها، إن جاءت بفوز كاسح لحزب رجب طيب أردوغان، فإنها ستسمح له بحصد ما لم يتمكن حتى اليوم من حصده، رغم مرور أكثر من 9 سنوات متتالية على حكم حزبه. وموسم حصاد ما بعد الانتخابات عناوينه حالمة، بدليل أن الفوز سيكفل بقاء الحزب الحاكم في السلطة لعشر سنوات مقبلة على حد حسابات قادته.
دعك من المشاريع الاقتصادية المجنونة للاكتفاء هنا بالبرنامج السياسي بمعناه الضيّق: دستور جديد لـ«تركيا الجديدة» (المصطلح رائج للغاية في الإعلام التركي)، يقطع نهائياً مع الدستور المعمول به حالياً، والمكتوب بدماء انقلاب 12 أيلول 1980 (رغم التعديلات الكثيرة التي طالته منذ ذلك التاريخ). يقطع مع كل ما يمتّ لسلطة العسكر في الحياة السياسية، ومع كل ما يعطي للجهاز القضائي سلطة همايونية على المؤسسات الدستورية. دستور يحلم أردوغان بأن يقطع أيضاً مع تقليد النظام البرلماني لتصبح تركيا جمهورية رئاسية «على الطريقة الأميركية» على حد تعبير رئيس الحكومة، الذي يحلم بأن ينتقل من رئاسة الوزراء إلى قصر شنقايا الرئاسي الرائع الغارق في قلب غابة وسط أنقرة، ليجلس على الكرسي الذي لو ظنّ مصطفى كمال أنّ إسلامياً سيرثه يوماً ما، لكان انتحر بجرعة زائدة من الكحول، أو بطلقة من مسدسه الأسطوري على الأرجح.
والعنوان «السياسي» الثاني لموسم الحصاد الأردوغاني ما بعد انتخابات 12 حزيران، إن لم تعرقَل مشاريع الحزب الحاكم، سيكون القضية الأهم والأخطر والأبرز، لا في تركيا فحسب، بل على صعيد القضايا الإقليمية والعالمية الصعبة، أي المسألة الكردية التي ربما تنافس القضية الفلسطينية تعقيداً. وهنا يقول أصحاب النيات الحسنة إن أردوغان وصحبه فهموا أنّ تركيا لن تصبح يوماً «تركيا جديدة»، أي تلك الدولة التي يحلمون بها، القوية جداً، والغنية جداً والديموقراطية جداً، باختصار لن تصبح بمثابة «أميركا المنطقة» ولن تخرج من مستنقع معايير دول العالم الثالث، إلا بعد أن تحلّ أزمتها الكردية المستعصية، وتخلع رداء قوميتها وشوفينيتها وتتصالح مع تاريخها وشعبها لتفتح مرحلة جديدة مع أكرادها الـ 20 مليوناً أو أكثر، من كل النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية والتنموية والتاريخية والقضائية والدستورية والقانونية، وبعدما تتخلى عن نظرية الحل الأمني مع أكرادها. يعتقد هؤلاء المتفائلون بأن هذه هي القناعة الحقيقية لأردوغان وإخوته، وأنهم يدركون أن فشلهم الأكبر بعد 9 سنوات من الحكم يبقى القضية الكردية نفسها. هؤلاء يظنّون أنّ أردوغان عجز كردياً في الماضي لأنه، تحديداً، لم يكن قادراً على حصد نتائج انتصاراته الانتخابية بسبب تكبيله بالدستور الحالي، لكنه، بعد 12 حزيران، سيكشف عن «وجهه الآخر»، ذلك الذي سيضع المسألة الكردية في صدارة اهتماماته ويعيد تنشيط «مبادرة الانفتاح الديموقراطي»، أو «الخطة الكردية» التي شغل بها تركيا والعالم لعام كامل، قبل أن تموت سريرياً في أدراج البرلمان. أما المتشائمون، فحججهم قوية أيضاً ليثبتوا على قناعتهم بانعدام الرغبة والقدرة لأردوغان للإقدام على خطوة كردية جريئة فعلاً.
الفوز محسوم لحزب أردوغان، إذ تجمع استطلاعات الرأي على أنه سيحصد ما بين 47 و50 في المئة من الأصوات، لكن السؤال يتمحور حول نسبة «الكسح» الذي سيحقّقه. ولأنّ أحلام رجال أردوغان كبيرة، فإنهم يريدون تحقيق نسبة ثلثي أعضاء مجلس النواب (المؤلف من 550 عضواً) أو اجتياز هذه العتبة حتى. كل ذلك لعلم أردوغان خصوصاً بأنّ نسبة الثلثين حتى قد لا تكفي لتمرير مشاريعه «المجنونة»، لأنّ الطعنة قد تأتي من الظهر أحياناً، أي من نواب حزبه، مثلما حصل عندما حذف نوّابه بند تعديل شروط حظر الأحزاب وانتزاعه من المحكمة الدستورية لإعادته إلى البرلمان، وذلك في مشروع تعديل الدستور الذي مرّ باستفتاء 12 أيلول الماضي. لذلك، يريد أردوغان كتلة برلمانية ليست كبيرة فحسب (فاز الحزب الحاكم بـ 341 نائباً في انتخابات 2007)، بل أيضاً من النواب الأوفياء جداً له، والمحسوبين عليه شخصياً، بما أن نحو 70 ممن يصوّتون لـ «العدالة والتنمية»، «يمنحون أصواتهم لأردوغان حيث يكون». حقيقة لا بدّ أنها تقلق أردوغان بالفعل، لأنه ينوي الانتقال من العمل الحزبي والحكومي إلى المنصب الرئاسي، الذي يرجَّح أن يمنع شاغله من الاستمرار في تولّي مهمات حزبية.



معلومات انتخابيّة

يحق لـ 50 مليوناً و 189 ألف ناخب تركي التصويت في الدورة الانتخابية التركية الـ 24 في 12 حزيران 2011، حيث يتنافس رسمياً 7 آلاف و695 مرشحاً من 15 حزباً ومستقلّين على مقاعد البرلمان البالغة 550 مقعداً. رقم المرشحين كبر بعدما خُفض سنّ الترشح إلى 25 عاماً بدلاً من 30. ويبلغ عدد الدوائر الانتخابية 85. ومن المرّات النادرة، سُمح بإجراء حملات الدعاية بلغات أخرى غير اللغة التركية، كالكردية خصوصاً. قانون الانتخابات في تركيا يقوم على النسبية، إذ يفوز كل حزب بعدد من النواب بحسب نسبة الأصوات التي نالها في كل من الدوائر الـ 85. يقدم كل حزب قائمة مقفلة من المرشحين في كل دائرة يفوز فيها حسب ترتيب المرشحين في اللائحة. وعلى الناخب أن يقترع إما للائحة حزبية مقفلة، أو لمستقل واحد فقط. ويجب على أي حزب أن ينال نسبة 10 في المئة على المستوى الوطني ليتمكن من الدخول إلى البرلمان، وإلا فإن الأصوات التي ينالها توزَّع على الأحزاب الأخرى الناجحة في الدائرة. لذلك، غالباً ما يترشح أعضاء الأحزاب الكردية بصفتهم المستقلة ليؤلّفوا، بعد نجاحهم، كتلة برلمانية حزبية يجب أن تضم 20 نائباً على الأقل. وأكبر المدن من حيث حصتها من عدد النواب هي: إسطنبول (85 نائباً) وأنقرة (31) وإزمير (26) وبورصة (18) وقونيا (14) وأنطاليا 14 نائباً أيضاً.