يتعاطى حزب «الشعب الجمهوري» التركي، أعرق الأحزاب في البلاد، (وليس أقدمها بما أن الحزب الشيوعي التركي تأسس في عام 1920، أي قبل 3 سنوات من تأسيس مصطفى كمال حزبه)، مع انتخابات 12 حزيران الجاري على قاعدة أنه قطار المعارضة التركية، والأقدر على تحجيم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم. وبما أنّ الكلمة السحرية حالياً هي «تركيا الجديدة»، فإنه يخوض الاستحقاق الانتخابي الأهم بشعار جذّاب: «حزب الشعب الجمهوري الجديد». لكنّ مراجعة سريعة لأداء الحزب، منذ ارتدى ثوب التغيير مع رئيسه الجديد، كمال كليتش دار أوغلو، تظهر مدى معاناته في مسيرة هذا التغيير الذي يكاد يقتصر على اسم رئيسه الذي خلف زعيمه التاريخي دينيز بايكال قبل نحو عام.
إذاً، «مفهوم تركيا الجديدة» يضرب الجميع، حتى «الشعب الجمهوري». لكنّ مشكلة هذا الأخير أنه لم يقدم مراجعة نقدية لتجربته ولا لتاريخه، بما أنه يتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الفساد والأزمات الاقتصادية وسلوك العسكر والتبعية المطلقة للغرب التي عرفت بها تركيا لعقود كاملة في عهد الحزب الذي لم يعدّل في مشروعه السياسي، ولا في مواقفه «الكبيرة» على نحو ثوري (من مسألة الأكراد ودور العسكر في السياسة وتعريف العلمانية والوجهة العامة للسياسة الخارجية...). وبدلاً من ذلك، يحاول كليتش دار أوغلو التعويض من خلال تحسين صورة حزبه في الإعلام عبر إطلالاته الكثيرة، وهو الوجه الإعلامي البارز والخطيب المفوَّه.
وممانعة «الشعب الجمهوري» للتغيير تُترجم من خلال إصراره على الثبات على مبادئه الستة التي كرّسها في صلب الدستور التركي في عام 1931: الجمهورية، القومية، تعزيز القطاع العام، الشعبوية، العلمانية والثورية. لكن هذا الحزب يواجه عدداً من المآزق: أوّلاً، أن تركيا لا تزال تعيش نوعاً من التسونامي السياسي، سبّبه ولا يزال حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، وبالتالي إنّ مواجهة هذا المارد السياسي تستوجب طروحات جديدة و«ثورية» بالفعل في الاقتصاد وحلّ المشاكل المستعصية تاريخياً، وخصوصاً في ما يتعلق بالأزمة الكردية. ثانياً، أنّ «الشعب الجمهوري»، الذي يخوض المعركة الانتخابية بتوقعات أن ينال ما بين 20 و25 في المئة من الأصوات، ورغم أن جمهوره كبير، فإنه يعاني من واقع أن الجيش خسر سيطرته على الجزء الأكبر من الحياة السياسية التركية، وهو المحسوب على هذا الحزب المحسوب بدوره على الجيش، لأن المؤسستين، أي الحزب والجيش، هما الابنتان الشرعيتان لمؤسس الجمهورية. ثالثاً، لأنّ الجهاز القضائي الذي يمثّل الركن الثاني بعد الجيش للنسخة الكمالية من العلمانية التركية، خسر أيضاً هيبته نتيجة الفضائح التي تلاحقه، وبسبب الأخطاء التي ارتكبها قضاة تركيا حتى بعد عهد انتهاء سطوتهم على السياسة. رابعاً لأنّ مفهوم اليسار الوسط (الشعب الجمهوري) اضمحلّ في تركيا بالفترة الأخيرة في مقابل صعود اليمين المحافظ الديني القومي، المتمثل بـ«العدالة والتنمية». خامساً، لأنّ «الشعب الجمهوري» لا يقدم جديداً للقاعدة الاجتماعية الخاصة به، وبالتالي إنّ تلك القاعدة لا تزال هي نفسها، مع ميلها العام إلى التناقص، وإن كان بطيئاً، بسبب تغيُّر الأجيال التركية بدليل ارتفاع معدلات الأعمار داخل صفوف هذا الحزب. من هنا يُلاحَظ أن أرقام «الشعب الجمهوري» ظلّت متقاربة في الاستحقاقات الانتخابية الأربعة الأخيرة؛ فقد حصد في انتخابات 2002، 19.3 في المئة من الأصوات، في مقابل 20.8 في المئة في 2007. كذلك حصد في الانتخابات المحلية البلدية لعام 2004، 18.3 في المئة، في مقابل 23.1 في المئة عام 2009.
والسمة الأبرز لسلوك «الشعب الجمهوري» في السنوات الأخيرة، ظلت ردّ الفعل، وهو ما جعل الحزب بحالة انتظار أخطاء أردوغان وحزبه للخروج ضدهما من خلال آلة إعلامية هائلة لا تزال الأقوى في البلاد، وهي التي تسيطر عليها عائلة دوغان بتلفزيوناتها وصحفها العملاقة منذ فجر الجمهورية. وسياسة رد الفعل المطلوبة بالنسبة إلى أي حزب معارِض، شرط ألا يكتفي بها، تمحورت حول رفض كل ما قام ويقوم به حزب العدالة والتنمية.
وبما أنّ «الشعب الجمهوري» يقدّم نفسه على أنه «حامي النظام»، يمكن معرفة مواقفه من خلال مجموعة لاءات:
ــ لا للتعديلات الدستورية التي جرت في 12 أيلول 2010 وحصّنت المؤسسات السياسية من سطوة القضاء والجيش. ــ لا لـ«الأجندة السرية» التي يملكها «العدالة والتنمية» التي يقول المعارضون إنها تقوم على أسلمة تركيا بالتدريج. ــ لا لسياسة «العودة التركية» إلى العالم العربي. والأهم، لا للتراجع عن أولوية الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. ــ لا للسياسة الاقتصادية المتَّبعة، ونعم لموازنة القطاعين العام والخاص بدل خصخصة كل شيء على طريقة «العدالة والتنمية». ــ لا للانقلاب على إرث أتاتورك وتحجيم دور المؤسسة العسكرية، رغم أنّ «الشعب الجمهوري» نفسه وقع ضحيّة انقلاب الجيش في 1980 الذي أغلق هذا الحزب من 1980 حتى 1992، ورغم أن الحزب نفسه يرفع حالياً شعار «الخدمة العسكرية السهلة» رداً على مشاريع الحزب الحاكم بتحديث الجيش وتقصير مدة الخدمة العسكرية الإلزامية فيه لاستبدالها لاحقاً بخدمة مدنية. ــ لا للسماح بارتداء الحجاب الإسلامي داخل الحرم الجامعي والمؤسسات الحكومية؛ لأن الحجاب «كان ولا يزال رمزاً سياسياً لا دينياً». ــ لا للتنازل عن أي شبر من قدسية قبرص التركية. ــ لا لمحاكمات المتهمين بالانتماء إلى عصابات «إرغينيكون»، بدليل ترشيح «الشعب الجمهوري» تسعة من هؤلاء المرشحين على لوائحه.
(الاثنين: أكراد تركيا
وآخر أوراق غصن الزيتون)



يساري بالاسم يميني بالفعل

يحلو للبعض المقارنة بين «جُبن» سلوك «الشعب الجمهوري» و«جرأة» حزب رجب طيب أردوغان، الذي غامر بخسارة قاعدته الاجتماعية وربح الرهان عندما أعلن أنه لم يعد ينتمي إلى تيار «النظرة الوطنية» («ميلي غوريش»، أو النسخة الكلاسيكية للإسلام السياسي التركي الذي أرساه نجم الدين أربكان، وفشلت في تثبيت وضع الإسلاميين الأتراك)؛ فقد وسّع أردوغان القاعدة الاجتماعية لحزبه، واجتذب فئات واسعة من البورجوازية، حتى في الأجزاء الغربية من تركيا (وهي عقر دار «الشعب الجمهوري») وبين الفئات الدنيا والكردية والقومية المتطرفة حتى، بينما ظلّ «الشعب الجمهوري» مكتفياً بقاعدته الشعبية الكلاسيكية من الطبقة الوسطى ونخبها، تلك التي تعرّف عن نفسها بأنها ليبرالية تقدمية علمانية. كذلك لم يقدم هذا الحزب جديداً إيديولوجياً لجمهوره، وبقي يسارياً بالاسم ويمينياً جداً بالفعل، وبالتالي لم تتسع قاعدته الاجتماعية كثيراً خارج مناطق غرب البلاد، ليفسح المجال أمام «العدالة والتنمية» بالتوسع شمالاً داخل الأناضول وجنوباً وغرباً، بينما هو بقي حيث قواعده قوية، وخصوصاً في إزمير، القاعدة الجمهوريّة العصيّة على الجميع، إضافة إلى بعض المدن الأناضولية ذات الغالبية العلوية التي تُعَدّ حجر الزاوية بالنسبة إلى شعبية الحزب، والتي ينتمي إليها زعيم الحزب، كمال كليتش دار أوغلو.