يخوض الحزب الشرعي لأكراد تركيا، «السلام والديموقراطية»، انتخابات 12 حزيران بمرشحين مستقلّين في إطار «جبهة العمل والديموقراطية والحرية»، لعجزه المنطقي عن تخطّي عتبة العشرة في المئة على الصعيد الوطني، الضرورية للتمكُّن من الدخول إلى البرلمان، مع أمل كبير بفوز 20 من مرشحيه على الأقل لتأليف كتلة برلمانية. المنافسة بالنسبة إلى حزب الأكراد محصورة مع حزب «العدالة والتنمية» الحاكم (نال حزب الشعب الجمهوري فقط 2 في المئة من الأصوات في دياربكر عام 2007)؛ فمنافع السلطة و«الدعوة الإسلامية» والوعود بالرخاء والسلام والعدالة وحدها قادرة على اجتذاب أصوات من «السلام والديموقراطية» لمصلحة «العدالة والتنمية». وتبدو التجربة من بعيد أكثر من ناجحة بالنسبة إلى قدرة الحزب الحاكم على «اختراق» المعسكر الكردي، إذ لدى «العدالة والتنمية» حالياً 75 نائباً كردياً في البرلمان من أصل مجموع نوابه الـ341. لكن هنا يحذّر بعض الأكراد من أن عدداً كبيراً من هؤلاء النواب ينحدرون من أصول كردية، ومنقطعون منذ زمن بعيد عن مناطقهم ومجتمعهم الكردي، وجزءاً آخر اختيروا ليكونوا نوّاباً لمجرّد كونهم من أصول كردية، حتى لو أنهم وُلدوا ويعيشون في مناطق لا يمثّل فيها الأكراد سوى أقلية ضئيلة نتيجة التغيّر الديموغرافي الذي طرأ على البلاد بقرار سياسي، لضرب الكتل السكانية الكردية الكبيرة منذ تأسيس الجمهورية، أو بفعل هجرة الفقراء في العقود الماضية. أضف أنّ عتبة العشرة في المئة، والقانون النسبي والتصنيف الذي يناله المرشحون على لوائح الأحزاب الكبيرة تتيح للحزب الحاكم إيصال أسماء معينة إلى البرلمان، مع تركيزه الدائم على أن يكون للأكراد حصة كبيرة للقول إن مشروعيّته هي الأكبر عند هذه الفئة التي يناهز عددها 15 مليوناً من أصل 78 مليون تركي تقريباً.
في هذه الدورة الانتخابية، الهدف الأساسي لأكراد «السلام والديموقراطية» هو جعل «العدالة والتنمية» مجرد «حزب بالاسم» (من دون محازبين) في المناطق الكردية، على حدّ تعبير رئيس بلدية دياربكر، عثمان بيدمير. ولأن دياربكر هي العاصمة السياسية للأكراد في العالم إن جاز التعبير، فإنّها تُعرَف بتعدُّدية سياسية كبيرة، حيث إنها غير محسومة على نحو كامل لـ«السلام والديموقراطية» ومن خلفه «العمّال الكردستاني». حتى زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتش دار أوغلو تمكّن من مخاطبة جمهوره فيها قبل أيام (للمرة الأولى منذ 2002). وعلى سبيل المثال، وصل 6 نواب من «العدالة والتنمية» عن دياربكر في انتخابات 2007، في مقابل 4 لحزب «المجتمع الديموقراطي» (حزب الأكراد في حينها)، بينما يتوقع أن تنقلب المعادلة في الدورة الحالية مع ترجيح فوز 6 عن «السلام والديموقراطية» و4 عن «العدالة والتنمية»، بعدما نال الحزب الكردي 59 في المئة من الأصوات في مقابل 31 في المئة لـ«العدالة والتنمية» في الانتخابات المحلية لعام 2009. ويتعمّد «السلام والديموقراطية» اعتماد أسلوب واقعي في الانتخابات، يقوم على عدم ترشيح عدد كبير من الأسماء، إذ يرشّح حالياً (كمستقلين طبعاً) 37 شخصاً (من بينهم 13 امرأة)، يتوقّع فوز ما بين 20 و25 منهم من محافظات دياربكر وفان وهكاري وماردين ومرسين وشيرناك وغيرها، مع تحقيق نسبة تناهز سبعة في المئة من الأصوات على الصعيد الوطني.
يُعتبَر حزب السلام والديموقراطية الكردي أنه أقرب ما يكون إلى الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، من ناحية العقيدة والبرنامج السياسي والقاعدة الشعبية. والمحافظات التركية ذات الغالبية الكردية تعيش منذ فترة أجواء انتفاضة شعبية، تأثّرت جدّياً بالانتفاضات الشعبية في العالم العربي، وخصوصاً في ما يتعلق بالخروج في تظاهرات واعتصامات كل يوم جمعة ضدّ «الدولة»، ورفض الامتثال للنظام العام على طريقة عصيان مدني، يترجم بوقوع قتلى وجرحى في صفوف المواطنين وعناصر الشرطة التركية دورياً. عصيان مدني جاء نتيجة لانتهاء فترة السماح التي أعطوها لحكومات «العدالة والتنمية» التي يقولون إن رئيسها «تغيّر»، بعدما كان يغدق الوعود بحل القضية الكردية في السنوات الأولى لوصول حزبه إلى السلطة.
لقد وصف أردوغان حزب «السلام والديموقراطية» يوم الأربعاء الماضي، ومن مدينة دياربكر بالتحديد، بأنه «تنظيم إرهابي»، وهو ما لم يتجرّأ على فعله حتّى غُلاة القومية التركية، وهو ما أراح، من دون شكّ، قادة هذا الحزب الكردي، لأنّ من شأن هذا الوصف أن يحقق المزيد من التضامن الشعبي معهم، وأن يوفّر لهم غطاءً لتبرير بعض الأحداث الأمنية التي قد تحصل وحصلت بالفعل، مع بقاء العيون مركّزة على ما قد يحصل في 15 حزيران، الموعد الذي حدّده عبد الله أوجلان لانطلاق «المقاومة الشعبية العامة» لتحقيق «الحكم الذاتي الديموقراطي» لأكراد تركيا.
وتوقفت وسائل الإعلام التركية طويلاً عند الخطاب الاستفزازي والإسلامي لأردوغان في دياربكر، وهو الذي وجد عدداً كبيراً من المحال التجارية مقفلاً في المدينة اعتراضاً على مجيئه. وفي خطابه الذي استمع إليه 10 آلاف مواطن، بينما كسر الرقم القياسي غير المشهود منذ عقود عندما جمع مليون مناصر في إسطنبول يوم الأحد، قال أردوغان إن ما يمارسه الأكراد «ليس عصياناً مدنياً، بل فاشية مدنية»، داعياً الأكراد إلى التخلّي عن قوميّتهم وتفضيل الانتماء الديني عليها. وتعهّد أردوغان ببناء المزيد من المدارس الدينية «إمام خطيب» (التي درس فيها أبناؤه الأربعة) في دياربكر، معترفاً بأنّ الأكراد يعتبرون عبد الله أوجلان نبيّهم، داعياً إياهم إلى التخلّي عنه والعودة إلى النبي «الأصلي».
(غداً: قانون الـ10 في المئة أو سرطان الديموقراطيّة التركيّة)



السياسة على طريقة العسكر

الأحزاب المحسوبة على الحركة القومية الكردية تنتمي إلى ذلك الصنف الشمولي من الأحزاب: تنظيم صارم، اقتناع من الصعب أن يهزّه تهديد أو إغراء، الكلّ في خدمة الحزب المستند إلى شبكة اجتماعية مصلحيّة عائلية عشائرية اقتصادية معقَّدة، قيادة تفرزها الأوساط الشعبية «العادية» بعيداً عن تقسيم بين نخب وفئات دنيا. من هنا، يندر أن يجد المرء مواطناً كردياً موالياً لأحزاب الحركة القومية الكردية المشروعة (اليوم هو حزب السلام والديموقراطية) لا تربطه معرفة شخصية بالرجال الأقوياء في الحزب، من رئيس بلدية دياربكر عثمان بيدمير أو زعيم الحزب صلاح الدين ديميرطاش أو الزعيم السابق له أحمد تورك أو النائبة ـــــ المقاتلة ليلى زانا... أو حتى أحد المحامين عن الرمز المسجون عبد الله أوجلان. لهذه الأسباب، وغيرها، كوّن أكراد تركيا خبرة سياسية كانت وليدة الجبهات أو السجون أو الجبال والملاحقات الأمنية والقضائية. باختصار، كوّنوا خبرتهم في أصعب الظروف. وعندما نزلوا إلى المدن، واجهوا قواعد لعبة سياسية لا يتقنونها تماماً، فكانت النتيجة أنّ شغلهم السياسي هو مزيج من العمل العسكري ومن التفاوض والمساومة السياسيتين، من دون نسيان أحد العناصر الرئيسية لأدوات عملهم، وهو الاستفادة من القوة الضاربة التي يمثّلها لهم حزب العمال الكردستاني المحظور، مع كل ما يحمله ذلك من أدوات تهديد وابتزاز... وعنف.