يتّجه رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، شيئاً فشيئاً، إلى ترجمة مضامين خطابه التصالحي الذي ألقاه من على شرفة مقر حزبه في أنقرة، غداة صدور نتائج انتخابات 12 حزيران الجاري. ولأن أردوغان والفريق الواسع من مستشاريه ومساعديه، يعرفون من أين تؤكَل الكتف، فقد قرّر صاحب الشعبية الأكبر من دون منازع في بلاده وفي المنطقة ربما، أن يبدأ انفتاحه على الخصوم من البوّابة القضائية، إذ سيسقط الرجل، بحسب ما نقله عنه نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب «العدالة والتنمية»، حسين جليك، كل الدعاوى القضائية الكثيرة التي رفعها على سياسيين وصحافيين، خصوصاً في فترة الحملات الانتخابية الحامية وما سبقها حتى.
خطوة لا بد من أن تلاقي أصداء ايجابية، وخصوصاً أنّ المشكلة الأكبر لدى أردوغان بالنسبة إلى المراقبين والصحافيين المعارضين، هو نزعة التسلط لديه، وكرهه للصحافة النقدية عموماً، وهو ما يترجمه واقع أنّ أكثر من 60 صحافياً يقبعون في السجون حالياً بتهم سيقت ضدهم خلال حقبة حكم رجب طيب أردوغان وحزبه. وسبق لأردوغان أن قال، في «خطاب الشرفة» الشهير يوم الأحد الماضي، إن الوقت «ليس لتصفية الحسابات بل لصنع السلام في ما بيننا»، مقدِّماً اعتذاره الصريح لـ«كل من شعر بأنني أهنته أو أذيته خلال الحملات الانتخابية»، داعياً أطراف المعارضة إلى نسيان توتر أجواء الانتخابات. ويرى كثيرون أنّ هذه المبادرة هي خطوة ذكية من أردوغان لاستمالة جزء من القطاعات الشعبية التي لا تزال خارجة عن الشارع الواسع الذي يحبّه. وبالنسبة إلى كثيرين، برهن أردوغان، منذ 2003 حتى الآن، وقبلها منذ كان رئيساً لبلدية إسطنبول، أنه يمتلك كل شروط القيادة والكاريزما، ولا ينقصه سوى «تحمُّل الاختلاف» والاعتراف بنقد خصومه. فهو صاحب قدرات خطابية شعبوية قريبة من الناس، بعيدة كل البعد عن «الكلمات الكبيرة» والشعارات الايديولوجية، وله يعود الفضل بالانجازات الاقتصادية التي حقّقتها حكوماته، والتنمية الكبيرة التي أتى بها عهده للشعب التركي، بدليل مشروع الرعاية الصحية الذي أتاح العلاج الاستشفائي لجميع الأتراك تقريباً، والمشاريع السكنية العملاقة التي باتت تسمح لأي تركي اليوم بدفع ما يقارب الـ75 دولاراً في الشهر ليصبح مالكاً لمنزله الخاص. أردوغان الذي باتت لديه مقبولية واسعة في الشارع العربي بصفته زعيماً، ظلّ رجلاً صدره ضيق جداً تجاه أي انتقاد، وهو ما تُرجم بحملاته الواسعة على الصحف المعارضة والمجلات الأجنبية النقدية حتى، وما قضية هجماته الشرسة على مجلة «ايكونوميست» البريطانية في الفترة الأخيرة سوى دليل على «لا ديموقراطيته». وبرسم أردوغان حالياً عدد كبير من الدعاوى القضائية بحق صحافيين وسياسيين حالياً. آخرها رفعها ضدّ رئيس تحرير صحيفة «طرف» التركية الليبرالية والحديثة النشأة والتي أثبتت نفسها أكثر الصحف جرأة (حيال قضايا الجيش والعلمانية والقضية الكردية والأزمة الأرمنية وويكيليكس...)، أحمد ألتان، على خلفية مقال كتبه الأخير في كانون الثاني الماضي واتهم فيه أردوغان بالتحوّل إلى قومي أكثر تشدداً من حزب الحركة القومية نفسه، مشيراً إلى أنه معاد لحقوق الأكراد. وبالفعل، بدأت الأسبوع الماضي، محاكمة ألتان في أنقرة. بالاضافة إلى الدعاوى القضائية ضد الصحافيين، لجأ أردوغان إلى المحاكم ضدّ خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم زعيم «الحركة القومية» دولت بهشلي، وزعيم «الشعب الجمهوري» كمال كليتش دار أوغلو، وزعيم الحزب الديموقراطي ناميك كمال يزبك.
ويعرف أردوغان أنّ خطوته الأخيرة تلك ضرورية لإزالة العداوات الشخصية تمهيداً لأجواء سياسية مناسبة للتمكُّن من جمع عناصر ضرورية لإجماع ما على خطوط عريضة حول دستور جديد ما. وكان اليومان الماضيان قد حملا جديداً غير سار لأردوغان وحزبه، إذ بات «العدالة والتنمية» يمثل 325 نائباً وليس 326 مثلما أعطته النتائج الرسمية؛ ذلك أنّ حزب «الحركة القومية» طلب إعادة عدّ الأصوات في إحدى دوائر إسطنبول، ليتبيّن أنّ خطأً تقنياً حصل وصُحِّح، وبالتالي أُعلن فوز أحد نواب «الحركة القومية» بدل أحد نواب «العدالة والتنمية» لتصبح حصة الحزب اليميني القومي المتطرف 54 نائباً بدل 53. وعن هذا الموضوع، رأى بعض المراقبين الأتراك أنّ مشكلة حصول الحزب الحاكم على موافقة 5 نواب ليصبح قادراً على طرح مشروع دستور جديد على الاستفتاء الشعبي، ليس بالأمر الصعب جداً على أردوغان، بما أنّ لعبة «سرقة» 5 نواب من الأحزاب الثلاثة المعارضة ستنطلق قريباً بكل أدوات الاغراء. وعن هذا الموضوع، يذكر مراقبون عدة أمثلة تاريخية تعود لسنوات قليلة حصل فيها أن انتقل نواب من حزب لآخر. وبما أنّ الأمر على هذا المنوال، يعتقد كثيرون أنّ جهد أردوغان وأركان حزبه سيتركز في الأشهر المقبلة على «سرقة» 5 نواب، أكثر من التفاوض مع أحزاب المعارضة والتنازل لهم للموافقة على نسخة معتدلة للدستور الجديد، ذلك أنّ الجميع يدركون أنّ دستوراً قد يتمكن أردوغان من طرحه على الاستفتاء الشعبي سيفوز بسهولة بغالبية الأصوات. وفي السياق، يذكّرون كيف أنّ الاستفتاء على تعديل الدستور في 12 أيلول نال موافقة 58 في المئة من الأتراك، رغم أنّه كان تعديلاً جزئياً، فكيف بالأحرى حين يتعلّق الأمر بدستور مدني جديد كلياً؟



3 نواب اشتراكيّين ضد أتاتورك

يستعدّ الأتراك لمشاهدة فصل جديد من فصول الطلاق الكردي مع النسخة الكمالية من الجمهورية التركية. فقد أعلن النواب الأكراد الاشتراكيون الثلاثة الفائزون بانتخابات 12 حزيران، والأعضاء في الكتلة البرلمانية لحزب الأكراد «السلام والديموقراطية»، وهم سيري ثريا أوندر ولفنت توزل (كلاهما فازا عن إسطنبول) والنائب عن مرسين إرتوغرول كوركجو، أنهم لن يقرأوا أجزاء من القسم النيابي لأنه «مناقض لمبادئهم الاشتراكية». ومن بين ما ينص عليه القسم البرلماني: «أقسم أن (...) أحافظ على وحدة واستقلالية الدولة (...) وعلى قيمها الجمهورية والعلمانية وعلى مبادئ الدستور التي ثبتها أتاتورك وإصلاحاته (...)». وبرر النواب الاشتراكيون الثلاثة قرارهم بأن بعض أجزاء هذا القسم هي عنصرية ولا تتلاءم مع قيمهم الاشتراكية، وخصوصاً ما يتعلق بقيم أتاتورك والولاء لهذا الدستور. وإذا نفّذ هؤلاء النواب تهديدهم، فسيكون المشهد شبيهاً لما حصل عام 1991، حين أدّت النائبة الكردية ليلى زانا (التي فازت يوم الأحد أيضاً) قسَمها البرلماني بلغتها الكردية غير المعترف بها رسمياً، وسُجنت بسبب ذلك لعشر سنوات كاملة. هي نفسها زانا التي توعّدت الأتراك بتحدٍّ جديد عندما قالت إنها ستدخل البرلمان وهي ترتدي الحجاب الاسلامي تضامناً مع التركيات المحجبات المضطهدات بالقانون التركي.