بين 14 تشرين الثاني 1995 والسادس من كانون الثاني 1996، توقّف العمل الحكومي الاميركي مرتين (أول مرة لخمسة أيام والثانية لعشرين يوماً). السبب وقتها كان الخلاف على الموازنة التي لم يستطع الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون ورئيس مجلس النواب الجمهوري نيوت غينغريتش الاتفاق عليها. فقد كان الجمهوريون يريدون اقتطاع مبالغ كبيرة من التقديمات الاجتماعية، وهو ما رفضه كلينتون. وفي ظل عدم وجود موازنة، توقف العمل الحكومي لغياب اموال لصرفها، وخصوصاً من أجل الرواتب. كان لتلك الحادثة اثر كبير على الجمهوريين، الذين خسروا الانتخابات الرئاسية نهاية 1996، ليعاد انتخاب كلينتون. ما يحدث اليوم بين الرئيس الديموقراطي باراك أوباما ومجلس النواب، ذي الغالبية الجمهورية، قد يكون مشابهاً في النتائج. إذ يدور الخلاف حول رفع سقف الاستدانة للحكومة، الذي يرفضه الجمهوريون، وإذا لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق فستدخل الدولة في ركود وظيفي بداية آب المقبل.
لكن مع اقتراب مهلة الثاني من آب، التي حددها وزير الخزانة الأميركي تيم غايثنر، يبدو كأنّ الامور تتجه نحو حلّ، بعد أسابيع من النقاش والجدال. إذ ظهر أوباما ليل الثلاثاء ـــــ الأربعاء ليعلن مجدداً تأييده لخطة تخفض الإنفاق، ودعا مسؤولي الكونغرس الى جولة جديدة من المحادثات هذا الأسبوع «تناقش فيها الأمور الهامة». بث اوباما بعض الأمل في نفوس المتابعين للأزمة المستعرة منذ اسابيع، بعدما عادت الى السطح خطة قدمها ستة شيوخ من الحزبين منذ فترة، تقضي بخفض الإنفاق الحكومي الأميركي بقيمة 4 تريليون دولار في السنوات العشر المقبلة.
ورغم عدم التفاؤل الكبير الذي يبديه بعض المراقبين تجاه الخطة القديمة ـــــ الجديدة، يجزم اكثر المتشائمين من بينهم أنّ الطرفين المتنازعين سيتوصلان إلى اتفاق قبل الثاني من آب المقبل. وهو تاريخ حددته الحكومة لنفسها، ولن تستطيع بعده دفع الرواتب ونفقاتها، وخصوصاً أنّها ستكون عاجزة عن تخطي سقف الدين، وهي النسبة المسموح بها للاستدانة. ومنذ 16 أيار، تاريخ اعلان غايثنر التوقف عن الاستثمار في صناديق التقاعد الفدرالية، يدور نقاش حول انفاق الحكومة وكباش في الكونغرس بشأن زيادة سقف الاستدانة. إذ يعود للكونغرس الأميركي، بغرفتيه، تحديد سقف الاستدانة التي تستطيع الحكومة الفدرالية اللجوء إليها لدفع فواتيرها من رواتب ونفقات وغيرها. ويطبق سقف الاستدانة في ديون الحكومة تجاه الأفراد، اي من يشترون سندات الخزانة، وفي صناديق الائتمان الفدرالية مثل الرعاية الصحية، والرعاية الاجتماعية. سقف الاستدانة الحالي هو 14.294 تريليون دولار (تم تحديده بداية 2010)، وهو وصل في 16 أيار الماضي إلى 14.293975000000 دولار، أي اقل بخمسة وعشرين مليون دولار من الحد الأقصى. ومع اتخاذ غايثنر قرار ايقاف الحكومة دفع مستحقاتها للصناديق الائتمانية، اصبح بإمكانها الصمود إلى الثاني من آب.
وفي الحقيقة، فإنّ الكونغرس كان دوماً، وعلى مر العهود المتعاقبة، يقر رفع السقف كلما واجهت الإدارة الأميركية متاعب مالية. ما اختلف اليوم، وحوّل الموضوع إلى أزمة تؤرق الأميركيين، هو أنّ مجلس النواب يسيطر عليه الجمهوريون الذين رأوا في الأمر فرصة لعرقلة عمل باراك أوباما وإدارته قبل عام على الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة. فما كان يحصل في السر، او بدون ضجة تذكر في العقود الماضية (74 مرة منذ 1962، 10 منها منذ 2001)، تحوّل إلى معركة انتخابية بشعة استخدمت فيها كلّ الأسلحة.
وفي مواجهة تعنت الجمهوريين حيال رفع سقف الدين، ومحاولتهم إغراء الناخبين الذين يبغضون الحكومات الكبيرة التي تنفق الكثير، بدأت الاقتراحات من الجانبين. إذ يمكن الإدارة الاميركية أن تخفض الانفاق أو تزيد الضرائب فتزيد الإيرادات حتى الثلاثين من أيلول المقبل، نهاية السنة المالية الجارية. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ الإدارة عاجزة عن القيام بأي من الامرين، فخفض الإنفاق سيكون له آثار اقتصادية كبيرة، وخصوصاً على الطبقات الفقيرة والوسطى، وتحديداً إذا طاول الخفض في الإنفاق الصناديق الائتمانية، وتلك شريحة لا يريد الديموقراطيون إغضابها لأنّها تشكل غالبية ناخبيهم. أما الحل الثاني، فلن يمر مرور الكرام، وخصوصاً مع الاغنياء، الذين ستستهدفهم الضرائب، ما قد يجمّد الاقتصاد المحلي ويدخل الأسواق العالمية في دوامة. وما يزيد الطين بلّة، تهديد وكالات التصنيف الائتماني بخفض تقويمها للدين السيادي الأميركي بعد الثاني من آب.
المشكلة داخل الحزب الجمهوري تنحصر في نوابه الجدد، وتنتمي غالبيتهم إلى الجناح المتطرف، الأقرب إلى «حزب الشاي». فرئيس مجلس النواب، الجمهوري جون باينر، وزعيم الاقلية في مجلس الشيوخ الجمهوري ميتش ماكونيل يريدان رفع سقف الإنفاق كي لا تعود واشنطن إلى فترة توقف العمل الحكومي في نهاية فترة بيل كلينتون الأولى. فالرجلان عاشا الفترة تلك، ويعرفان نتيجتها على حزبهما. لكنّهما يعانيان مشكلة مع الأعضاء الذين لا يريدون التصويت بنعم، مدعومين من السيناتور المخضرم، المتشدد جيم ديمينت. حتى إنّ مكونيل اعرب علناً عن النتائج السياسية السيئة التي سيواجهها الجمهوريون إذا انفجرت الأمور بعد الثاني من آب. وقال في مقابلة إذاعية الأسبوع الماضي «إنّ الديموقراطيين يريدون إلقاء اللوم علينا في موضوع الاقتصاد، وتوقف الحكومة عن العمل ليس جيداً لنا فقد جربناه في 1995 وقضى علينا...».
ويروج الجمهوريون داخلياً أنّ توقف الحكومة عن العمل سيكون كارثياً عليهم، محاولين اقناع المتعنتين بينهم. ونقلت بعض المصادر من داخل الحزب أنّ النائب باينر كان عدائياً مع النواب الجمهوريين خلال محاولة افهامهم ضرورة التوصل الى اتفاق. ويوم الجمعة الماضي، جمع باينر النواب الجمهوريين وخضعوا لمحاضرة قدمها مساعد وزير الخزانة في عهد جورج بوش الأب، جاي باول، اخبرهم فيها توقعاته لما سيحصل بعد الثاني من آب. ففي الثالث منه، ستكون الحكومة مدينة بـ32 مليار دولار من الانفاق الاجباري، من ضمنها 23 ملياراً شيكات للضمان الاجتماعي، ورواتب بقيمة 500 مليون، و1.4 مليار مستحقة لمتعاقدي وزارة الدفاع، و100 مليون تريد مصلحة الضرائب ارجاعها إلى المكلفين. في اليوم ذاته، ستكون ايرادات الخزينة 12 مليار دولار فقط، اي ستكون عاجزة بمقدار 20 مليار دولار. ووفق باول، بحلول الخامس عشر من آب، حين تصل فوائد دفعات الحكومة إلى 29 مليار دولار، سيكون عجز الخزينة قد وصل إلى 74 ملياراً، وربما أكثر إذا زادت فوائد السندات.
وخلال الاجتماعات المتكررة في البيت الأبيض في الأسابيع الماضية، تصادم الجمهوريون والديموقراطيون حيال الحل الضروري للخروج من المأزق. فلم تعجب خطة نائب الرئيس جوزيف بايدن الجمهوريين لأنّها تخفض الانفاق فقط بقيمة ملياري دولار. حينها اقترح ماكونيل خطة على اوباما تقضي بتمرير رفع سقف الدين دون اصوات الجمهوريين. خطة ماكونيل كانت ستسمح لأوباما بأن يقترح اقتطاع بعض اوجه الانفاق في الموازنة، مقابل ثلاث زيادات في سقف الاستدانة من آب حتى تشرين الثاني، دون تحويل الاقتطاعات إلى قوانين قبل رفع سقف الاستدانة. ومقابل ذلك يقتطع 1.5 تريليون دولار من الانفاق على مراحل طويلة، تمتد حتى نهاية السنة المقبلة. يحصل كل ذلك دون الاضطرار للّجوء إلى التصويت في الكونغرس. لكن هناك رفضاً شعبياً جمهورياً للخطة، ما جعل حظوظها تتراجع.
الخطة التي اعادت الأمل إلى أوباما والأميركيين، اقترحها ستة شيوخ من الحزبين وتطمح إلى خفض الإنفاق 4 تريليونات دولار في العقد المقبل، ويناصرها 43 شيخاً من الحزبين ايضاً. وتقضي الخطة بتقديم دمج لمطالب الحزبين: خفض الانفاق الذي يطلبه الجمهوريون، وزيادة المداخيل الضريبية عبر نظام جديد، وهو ما يطلبه الديموقراطيون. الخطة كان اقترحها الشيخ الجمهوري المحافظ توم كوبرن مع خمسة من زملائه قبل شهرين، حين بدأت الازمة، ثم تخلى عنها، بعدما رأى انّها لن تستطيع خفض الانفاق بنسبة معقولة. لكنّ تلك الخطة هي من أربع صفحات فقط، وهناك شك في إمكانية المشرعين من الجانبين في الاتفاق على تحويلها إلى قانون يتمكنون من التصويت عليه في الأيام العشرة المقبلة.
ومقابل ترحيب أوباما بالخطة، قال زعيم الغالبية في مجلس النواب الجمهوري، إريك كانتور، إنّ الاقتراح «يحمل بعض الأفكار البناءة التي من شأنها أن تعالج موضوع ديننا العام». لكنّه لم يتبنّها كلياً. وترافقت المواقف تلك مع تصويت النواب الجمهوريين يوم الثلاثاء على قرار، لن يمر بالطبع في مجلس الشيوخ، يطلب من الحكومة خفض الإنفاق العام المقبل، وتقديم تعديل دستوري يجبر الإدارات المتعاقبة على تقديم موازنات مستقبلية تتساوى فيها الإيرادات مع النفقات.
ويعتقد بعض المراقبين أنّ الفرصة سانحة أمام الجمهوريين ليقبلوا تسوية حالاً، وخصوصاً أنّ اوباما مستعد اليوم لخفض الانفاق على برامج الرعاية الصحية والاجتماعية، وهو ما لن يحصل مرة أخرى. وإذا فوّت الجمهوريون على أنفسهم الفرصة هذه، فقد يكون مصيرهم تكرار مأساة اعادة انتخاب كلينتون، وهم برأي كثيرين لا يتعلمون من اخطائهم، ومن غير المستبعد أن يكرروها مجدداً.



قلق الشركات

فيما يتسابق المشرّعون في واشنطن مع الوقت من أجل التوصل إلى اتفاق قبل الثاني من آب المقبل، تعاني شركات «وول ستريت» قلقاً من تأثير ما يحصل على أعمالها. وبدأت تلك الشركات العمل على اتخاذ تدابير من شأنها تجنيبهم خسائر كبيرة. بعض الشركات بدأت التخلص من سندات الخزينة التي تملكها، خوفاً من انهيار سعرها بعد ايام، فيما تقوم اخرى باجراءات تحد من الانهيار، في حال حصوله. ما يخيف الشركات أنّ معظمها يستخدم سندات الخزينة عوض المال، وقد بدأت بعض المصارف دراسة ما تملكه من السندات، وما يملكه زبائنها لتحديد ما اذا كان الأفضل التخلص منها قبل الثاني من آب، إذا كانت المؤشرات تدل على فقدانها قيمتها. اما صناديق التحوّط فقد بدأت تشتري دولارات وتخبئها في انتظار اليوم الموعود، وحينها ستشتري هي الديون الأميركية إذا تخلى المستثمرون المعتادون عن القيام بذلك.