ارتفعت في الآونة الأخيرة التحذيرات الأميركية لباكستان على خلفية التهم التي تدور حول رعايتها لحركات التمرّد وتسهيل عملها لضرب المصالح الأميركية والأطلسية في أفغانستان، والسبب لا يعود إلى بروز تطور جديد في هذه الاتهامات، فهذه المعزوفة يردّدها المسؤولون الأميركيون منذ غزو في أفغانستان في 2001، بل إلى المفاوضات السرّية الجارية لتسهيل الانسحاب الأميركي عبر مصالحة أفغانية تؤدي إلى تقاسم السلطة، ويبدو أنّ الأميركيين لا يريدون لبعض الحركات المتحالفة مع باكستان، كشبكة حقاني، أن تكون جزءاً من الصفقة. لكنّ الأميركيين ليسوا في وضع يسمح لهم بفرض شروط.
في تقرير على صفحتها الأولى أمس، تُشير صحيفة «نيويورك تايمز» إلى اجتماع بين مجموعة من الضباط الأميركيين ومسؤولين أفغانيين لمدّة 5 ساعات مع مستضيفيهم الباكستانيين في قرية حدودية انتهى بانقلاب الحلفاء الباكستانيين على ضيوفهم وقتلهم رائداً أميركياً وجرح 3 ضباط أميركيين مع مترجمهم الأفغاني، قبل أن يلوذوا بالفرار على متن مروحية عسكرية.
تقول الصحيفة إن الحادث الذي اعتبره مسؤولون انتقاماً لمقتل أفغان وباكستانيين على أيدي القوات الأميركية، وقع في أيار 2007 في تيري مانغال، وأن واشنطن تجاهلته وأبقته سرّاً. وأضافت أن كلاً من واشنطن وإسلام آباد حاولتا الالتفاف على التحقيقات وتجاهلتا الحادث لعدم تأزيم العلاقة أكثر. وفي البداية نسبت باكستان الحادث إلى مسلحين، ولمّا ضُغط عليها لإجراء تحقيقات جدّية، نسبته إلى جندي متمرّد من القوات الحدودية، وبقيت التفسيرات لما جرى غير واضحة أو غير مقنعة.
أن يجرؤ جنود أو ضباط باكستانيون على ارتكاب مثل هذا العمل يؤكّد النفوذ الذي يمتلكه المتمردون داخل المؤسستين العسكرية والاستخبارية لباكستان. وهذا ليس سرّاً، إذ لطالما أبقت هاتان المؤسستان روابطمها، وإن أظهرتا العكس، مع الحركات التي رعتاها إبان الحقبة السوفياتية، ومن ضمنها شبكة «حقاني». أسّس الشبكة جلال الدين حقاني، القائد المقاتل ضدّ السوفيات خلال حقبة الثمانينيات الذي عُرف بشراسته وقوته. بدأ مسيرته القتالية مع الحزب الإسلامي، وعندما انشق الأخير في أواخر السبعينيات، انضم حقاني إلى جناح يونس خالص، لا إلى أمير الحرب المعروف قلب الدين حكمتيار، ليلمع نجمه في ما بعد ويترفّع إلى قائد ميداني مع اجتياح السوفيات لأفغانستان، وفي حينها كان حقاني في باكستان مع مجاهدين آخرين. تلقى دعماً مميزاً من الرفيقتين السابقتين «سي آي إيه» و«آي أس آي»، ليبني ميليشياته الخاصة في منتصف الثمانينيات. ومع دحر السوفيات، استمرت تلك العلاقة الحميمة بين «آي أس آي» وحقاني وتعمّقت أكثر، بما أنّ شبكة حقاني باتت أحد الأبناء المدللين لباكستان، إضافة إلى «حركة لشكر طيبة»، التي تزعج منافسيها، وفي مقدّمتهم الهند.
يقول المبعوث الخاص السفير الأميركي لدى أفغانستان ما بين 1989 و1992، بيتر طومسون، إن «آي أس آي» عادت وعزّزت علاقاتها مع شبكة حقاني بعد الاجتياح الأميركي لأفغانستان في تشرين الأول 2001، حيث دُعي حقاني إلى إجراء محادثات بشأن حكومة ما بعد «طالبان». وينقل مدير الاستخبارات الوطنية مايك ماكونيل في 2008 عن قائد الجيش الباكستاني أشفق كياني قوله إنه يعتبر شبكة حقاني حليفاً استراتيجياً.
المسؤولون الأميركيون يتّهمون الشبكة بالوقوف وراء غالبية الهجمات التي وقعت في شرق أفغانستان في 2008، حيث عمل نجل جلال الدين حقاني، سراج الدين، الذي أعلن مراراً ولاءه للملا عمر، على توسيع العمليات التقليدية لوالده في خوست وباكتيا وباكتيكا إلى مقاطعات شرقية أخرى شأن غازني ولوغار وورادا وصولاً إلى كابول، وهو يملك علاقات قوية مع الحركات المسلحة في أفغانستان والقادة الرفيعين لحركة «طالبان». ويعتقد هؤلاء أن الحركة شنّت بالتعاون مع الاستخبارات الباكستانية الهجمات على المباني الحكومية في كابول، ونفذت هجوماً انتحارياً ضدّ السفارة الهندية في 2008، وحاولت اغتيال الرئيس الأفغاني حميد قرضاي في نيسان 2008. وذكرت الاستخبارات الأفغانية مرّة أنها كشفت شبكة مسؤولة عن شنّ 6 عمليات انتحارية في كابول مرتبطة بحقاني وحركة المجاهدين والاستخبارات الباكستانية. وبحسب تقارير استخبارية أميركية، فإنه على الرغم من تحقيق بعض المكاسب في الحرب، يبقى عدم رغبة باكستان في إغلاق مواقع المتمرّدين في المنطقة القبلية الحدودية عائقاً جدياً، إضافة إلى سماحها للمتمردين بعبور الحدود إلى المناطق الأفغانية بحرّية وشنّ الهجمات ثم العودة إلى معاقلهم سالمين غانمين للإعداد لهجمات جديدة. وهذه المقاربة لقيت رفضاً من قبل العسكريين الباكستانيين الذين رأوا أنّ تقارير الاستخبارات الأميركية لا تأخذ في الاعتبار نجاح المعارك في قندهار وهلمند في الجنوب.
تمسّك باكستان بشبكة حقاني التي استخدمتها أيضاً لضرب المصالح الهندية، لا يعني أنها ترفض المس بها؛ فهي كانت قد عرضت تسليمها، لكن شرط أن تكون جزءاً في ترتيب تقاسم السلطة في كابول بعد رحيل القوات الأميركية. هذا ما استندت إليه على نحو أساسي المفاوضات الباكستانية الأخيرة مع الفاعلين الإقليميين والولايات المتحدة.
ليست شبكة حقاني فقط ما تحمله إسلام آباد في جعبتها من أوراق لترتيب البيت الأفغاني وفق مصالحها. فقد ذكر مسؤولون أفغان أن كياني تقدم للتوسط في صفقة مع الملا عمر، أمير «طالبان»، وأرسل أيضاً مبعوثين إلى كابول من أمير الحرب قلب الدين حكمتيار حملوا عرضاً يتضمن 15 بنداً في العام الماضي.
لكن واشنطن التي تبغي من وراء حربها عزل تنظيم «القاعدة» وحرمانه من جناته الآمنة في المناطق القبلية الباكستانية، تجد من الصعوبة رؤية شبكة حقاني في أي صفقة محتملة لتقاسم السلطة في كابول، فهي غير مقتنعة بإمكان حدوث اختراق بين «القاعدة» وحلفائه. وأظهرت رفضاً لدخول الشبكة في أي تسوية محتملة، مع أنّ باكستان أكّدت في مناسبات عدّة في الغرف المغلقة أنّ شبكة حقاني، وغيرها من التنظيمات المتمردة المسلحة، مستعدة لعقد صفقة تشمل فكّ ارتباطها مع «القاعدة».



حقاني والأموال الخليجية

تأثر مؤسّس شبكة حقاني جلال الدين بمدرسة الإخوان المسلمين في مصر، شأنه بذلك شأن الكثير من المجاهدين الأفغان في حقبة مقاومة الاحتلال السوفياتي. ويقود الشبكة حالياً ابنه جلال الدين، مع تدهور صحة الأب. وتدير الشبكة عدداً من المدارس الدينية في منطقة وزيرستان، حيث ينتشر لها أيضاً عدد من مخيمات التدريب. ويقول مسؤولون عسكريون أميركيون إن شبكة حقاني تستقطب مقاتلين أجانب من باكستان وأوزبكستان والشيشان وتركيا والشرق الأوسط.
تنحدر عائلة حقاني من قبيلة زدران قوم التي توجد بغالبيتها في باكتيا وخوست شرق أفغانستان. يجيد حقاني الأب اللغة العربية، وإحدى زوجتيه الاثنتين من الإمارات العربية، وهذا سهّل له الحصول على الأموال الخليجية، ولا سيما السعودية، كذلك فإنهّ غالباً ما يسافر إلى الدول الخليجية حيث يحظى باحترام وتقدير، ولديه علاقات تعود إلى أيام القتال ضدّ السوفيات.
يعتبر حقاني من الشخصيات المقرّبة من زعيم تنظيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن، وبدأت العلاقة بين الرجلين في الثمانينيات. وكان أول المخيمات والمباني التي شيّدها بن لادن في أفغانستان في أراضي حقاني.