كلام الرئيس الأميركي عن «حق الفلسطينيين بدولة لهم» لا يزال حاضراً في الأذهان، فعمره لم يتجاوز سنة ونصف سنة، حماسته لحلّ القضية الفلسطينية على نحو عادل ووعوده في خطاب القاهرة الشهير عام 2009 لم ينسها المتابعون بعد، لكن يبدو أن صاحب شعار «التغيير» لم يغيّر سوى مواقفه وسياساته، وها هو يرضخ لحتمية تاريخية تقضي بحفاظ الولايات المتحدة على مصالح إسرائيل حتى آخر نبض فيها.

35 دقيقة، مدّة خطاب، ردّ البوصلة الأميركية الى قِبلتها الإسرائيلية واعتذر عن بعض الجرأة التي أصيبت بها مواقف إدارة أوباما أخيراً، وأعاد ابتسامة الرضى الى وجه نتنياهو.
موقف الرئيس الأميركي من الطلب الفلسطيني كان متوقعاً ومعروفاً مسبقاً صحيح، لكن أن يجمع أوباما في خطاب واحد بين مباركته ثورة الشعوب العربية والأفريقية من أجل الحرية والاستقلال و«واجب الفلسطينيين عقد سلام مع الإسرائيليين قبل الحصول على دولتهم» كان أمراً مستفزاً لمعظم الصحافيين.
البعض اشمأزّ من هذه الازدواجية ونبش (بسهولة) للرئيس كلماته السابقة وتعهداته وقارنها بما جاء في الخطاب الأخير، البعض الآخر لامه لأسباب سياسية تتعلق بمصالح أميركا وإسرائيل حالياً في المنطقة، والبعض تفهّم كمية الضغوط الاسرائيلية التي مورست على الرئيس الذي يخوض حملة انتخابية عدد كبير من مموليها وأصواتها حرّاس لمصالح إسرائيل.
«رمى بثقل الولايات المتحدة في درب الحراك الديموقراطي العربي»، عبارة استخدمتها هيلين كوبر في مقالها حول خطاب رئيسها في صحيفة «نيويورك تايمز». كوبر ذكّرت بحرفية مواقف أوباما حيال القضية الفلسطينية منذ اليوم الأول لتسلّمه الحكم. وأشارت الى أن التحدي الأكبر للرئيس قبل إلقاء خطابه كان كيفية صياغة التناقضات التي تشوب موقف إدارته: «السيّد» أوباما، كما خاطبته، الذي وعد منذ اليوم الأول بالتوصل الى سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لم يفلح بعد سنتين ونصف سنة في إطلاق محادثات بين الطرفين. والرئيس الذي فتح الباب أمام قيام دولة فلسطينية من على منبر الأمم المتحدة هو اليوم بصدد استخدام حق الفيتو لمنع تحقيق قرار كهذا. والرئيس ذاته الذي قرر أن يقف وقفة حق تاريخية الى جانب العرب ها هو، وبنظر عرب كثيرين، ليس الى جانبهم في القضية الفلسطينية، تشرح الصحافية الأميركية.

أوباما كالببغاء

غضب كوبر وخيبة أملها تكررا في مقالات كثيرة عما قاله الرئيس الأميركي من على منبر الأمم المتحدة. ستيف كليمونز في «ذي أتلانتيك» يرى أن أكثر ما خيّب الآمال هو «ليس فقط عدم تقديم أوباما أي اقتراح لكسر جليد المحادثات الإسرائيلية ــــ الفلسطينية، بل هو إذعان الرئيس الحرفي لمطالب الإسرائيليين وتنفيذ مشيئتهم بإبقاء الجمود». كليمونز يرى أن أوباما يكرر كالببغاء عبارة أن «الحلّ بيد الطرفين»، متجاهلاً أن استمرار الـ «ستاتو كو» هو لمصلحة المسيطر والقوي. كليمونز يطرح سؤالاً على الإدارة الأميركية: ماذا لو قالت الولايات المتحدة لكوسوفو مثلاً إننا لن نعترف بك كدولة قبل أن تحلّي كل مسائلك العالقة مع روسيا؟
سؤال آخر طرحه العديد من المراقبين وهو في صلب الانتقادات واللوم السياسي الذي وجهه المحللون إلى الرئيس: لماذا قد يعطي أوباما ذريعة للمجموعات المسلحة مثل حركة «حماس» لكي تبقي نشاطها العسكري طالما أن الخيار السلمي والدستوري والأممي الذي حمله عباس لم يُجد نفعاً؟ «السلام لن يأتي بالبيانات والقرارات في الأمم المتحدة»، ألا يشبه كلام أوباما هذا تصريحات مسؤولي «حماس»، عندما شرحوا أسباب مقاطعتهم التوجه الى الأمم المتحدة مع محمود عبّاس؟ يسأل هؤلاء.
قد يكون للرئيس «ظروف أخرى» يبرّر له البعض، ويشرحون كيف «حشر الجمهوريون أوباما في الزاوية»، وزادوا من حدة الضغوط على حملته الانتخابية عندما هددوه باستمالة المقترعين اليهود اليهم بحجة أن «أوباما يقسو على إسرائيل كثيراً». هو إذاً الرئيس المزدوج الخطاب، المتخلي عن مبادئ الديموقراطية وخطّ الثوار، والخانع لأوامر إسرائيلية مباشرة... لكنّه أيضاً الرئيس «الشرّير».
صفة الشرّ تلك أطلقها عليه الصحافي غراهام آشر في مجلة «ذي نايشن» الأميركية، بنظره «أوباما شرير على الأقل بالنسبة إلى تلك الشعوب التي يمثل لها الاحتلال الإسرائيلي حاجزاً جليدياً أمام الربيع العربي». آشر غاضب أيضاً من رضوخ أوباما العلني للمطالب الإسرائيلية «هو لم يأت حتى على ذكر المستوطنات الإسرائيلية، وكل ما حذّر منه كان الخطر المحدق بإسرائيل من جيرانها الذين شنوا عليها حروباً متكررة» يضيف الكاتب.
«ذي نيويوركر» حلّلت، من جهتها، حالة إسرائيل اليوم في المنطقة ومعها الولايات المتحدة الأميركية من خلال خطاب أوباما. ستيف كول لفت في مقال بعنوان «استحقاقات العضوية» الى ما سمّاه «الشلل الذي تدمّر به إسرائيل نفسها». كول يشير الى انعزال إسرائيل في المنطقة المحيطة بها اليوم، وهو يشرح كيف أن تصميم نتنياهو على الاستمرار في سياسة الاستيطان، رغم تعطيل ذلك إطلاق أيّ محادثات مع الفلسطنيين، يؤدي الى عزله عربياً وأوروبياً. لذا يرى الكاتب أنه بخسارة مصر وتركيا كحليفتين لهما في المنطقة تبدو «إسرائيل والولايات المتحدة محاصرتين معاً وتعيشان عزلة خطيرة في فترة تغيرات مهمة للغاية».

محبط ونموذجي

الفرنسيون «انتقموا» على طريقتهم من فعلة أوباما في ملف يعرفونه جيّداً وهو الملف الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي: «تعرّفوا إلى أوباما الجديد المكبّل اليدين»، «رئيس مخيّب للآمال»، «فوّت فرصة كبيرة ليدخل التاريخ كرجل سلام»، «محجَّم ومحشور»... هذا ما أطلقه بعض المراقبين الفرنسيين على الرئيس الأميركي «الذي تخلى عن أحلامه وأحلامهم»، كما قال البعض.
«خطاب محبط ونموذجي» يقول المؤرخ رشيد خالدي لصحيفة «لو موند» الفرنسية. محبط، يشرح خالدي، لمجرد سماع الرئيس «يحتفل بحصول أهل جنوب السودان وساحل العاج وتونس ومصر وليبيا على حرياتهم الجديدة، ويشترط على الفلسطينيين أن يقوموا بخيارات ملتوية من أجل المحتلين الإسرائيليين وأصدقائهم الأميركيين».
هو محبط أيضاً، يضيف خالدي، لاكتفاء أوباما بوصف معاناة الإسرائيليين من دون أي ذكر لمآسي الفلسطينيين تحت وطأة احتلال قاتل. وهو نموذجي حسب الكاتب، لأنه يظهر مجدداً أن الولايات المتحدة لا تزال عائقاً كبيراً أمام سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.
«كملاكم تلقى ضربة قاضية، لكنه لا يزال واقفاً داخل الحلبة ولا يملك سوى خيار الفيتو على الطلب الفلسطيني» هكذا يرى برتران بادي باراك أوباما في مقابلة مع صحيفة «لو موند» الفرنسية.
أستاذ العلوم السياسية، يقيس من خلال موقف أوباما الأخير «مدى ضعف الولايات المتحدة كقوة عظمى في الشرق الأوسط، ومدى ضعف وعزلة وتناقض الرئيس الأميركي بذاته».
رئيس لم يستطع كبح الجموح الاستيطاني لنتنياهو، بل لجأ الى ممارسة ضغوط على رام الله للتخلي عن مطلبها، «عاكساً المسار الذي اتجهت صوبه استراتيجيته الأساسية». هذا كلّه حسب بادي دليل واضح على صعوبة اللعب في منطقة الشرق الأوسط الآن، وعلى تغير موازين القوى في المنطقة لا لصالح أميركا ولا إسرائيل.



«حامية أم باردة»؟

بعد خطاب باراك أوباما، سألت «فورين بوليسي»: «هل العلاقات بين أوباما وإسرائيل حامية أم باردة؟»، وجاء الجواب واضحاً، هي حامية بحماوة آخر صفقات السلاح التي أرسلها أوباما إلى نتنياهو. تلك الصفقة حسب تقرير إيلي ليك في مجلة «نيوزويك» كبيرة ومهمة، وقد انتظرها الإسرائيليون منذ سنوات بعد أن أُجّلت في عهد جورج والكر بوش. ليك كشف عن أن تلك صفقة تزوّد الجيش الإسرائيلي بما يعرف بـ«القنابل الخارقة للتحصينات» التي تستخدم مثلاً لمهاجمة المواقع النووية الإيرانية، كذلك تتضمن شبكة رادارات، بعضها في دول عربية مجاورة، تساعد إسرائيل على رصد أي هجوم صاروخي تجاهها. «ما يمّيز إدارة أوباما فعلياً هو محافظتها على مستوى جيد مع إسرائيل في ما يخصّ التسليح والعمل الاستخباري في ظل أي اختلاف سياسي»، يقول عاموس يدلين رئيس الاستخبارات السابق للجيش الإسرائيلي. ويشير ليك إلى أن بعض صقور إدارة بوش حتى يشيدون بما يقوم به أوباما مع إسرائيل ـــ ومن أجلها ـــ «خلف الكواليس».