هي مادة دسمة لمحبّي الرئيس الأميركي ولكارهيه، للمشاركين في حملته الانتخابية وفي الحملات المنافسة، لمهووسي «الحرب على الارهاب» ولناشطي حقوق الانسان (الذين يستفيقون فجأة)، لمروّجي السلاح وللداعين الى تقليص نفقات التسلّح... قرار قتل المواطن الأميركي المصنّف إرهابياً أنور العولقي ومقتل أميركي آخر معه يدعى سمير خان في اليمن أعطى مؤيديه فرصة للتباهي والتسييس ولرافضيه فرصة... للصراخ. وفي المحصلة، اليمن يقفز الى المشهد السياسي ـ الاعلامي الأميركي على مدى أسبوع من دون منازع. يمن تَمَثّل فقط بالعولقي و«القاعدة» و»الارهاب» على حساب كل القضايا الحياتية والاجتماعية الاخرى.

اسم أنور العولقي ليس جديداً على الاعلام الأميركي: ففي حادثة إطلاق النار في قاعدة «فورت هود» العسكرية في تشرين الثاني عام ٢٠٠٩ قيل إن الضابط (نضال حسن) مرتكب الجريمة تبادل رسائل مع العولقي حثه فيها الاخير على ارتكاب فعلته. وفي كانون الاول من العام نفسه ذكر أن النيجيري (عمر الفاروق) الذي حاول تفجير طائرة ركاب أميركية يوم عيد الميلاد تأثر بدعوات العولقي وأقواله. مذّاك اهتمّ الاعلام بنحو متزايد بحامل الجنسية الأميركية الذي يدعو الى محاربة الولايات المتحدة، ويبشر بقتل مواطنيها مستخدماً لغتها وأحدث وسائل الاتصال.
لكن العولقي طيلة تلك الفترة لم يؤبلس بالدرجة التي أبلس فيها أسامة بن لادن أو أبو مصعب الزرقاوي مثلا، فهو ليس الرجل المولود في بلاد بعيدة «حيث المعتقدات الغريبة والمجتمع المنغلق المتوحش»، بل هو ابن البلد الذي عاش في الولايات المتحدة ودرس في جامعاتها وخطب في مساجدها. حتى أن بعض الصحافيين التقوه شخصياً: مصورة صحيفة «واشنطن بوست» أندريا بروس مثلاً لا تزال تحتفظ بالـ«بزنس كارد» الذي أعطاه إياه العولقي بعد جلسة تصوير فوتوغرافية له في مسجد دار الهجرة حيث كان يخطب في ١٢ أيلول ٢٠٠١.
أيضاً، التوصيف الرسمي والاعلامي الذي أطلق على العولقي منذ بدء تكرار اسمه على ألسنة المسؤولين كان «رجل البروباغندا في تنظيم القاعدة في الخليج العربي» أو «الرجل المؤثر في عقول المجاهدين» و«الشيخ البارع في استمالة وتوظيف المتطرفين»... لكن مساء الجمعة ٣٠ أيلول الماضي، خرج الرئيس الأميركي ليعلن خبر قتله فعرّف عنه بـ«مسؤول العمليات الخارجية في تنظيم القاعدة في الخليج العربي».
لماذا رُقي العولقي فجأة الى هذا المنصب؟ وهل مثّل فعلاً خطراً داهماً على أمن الولايات المتحدة؟ هل يحق للرئيس إعطاء أمر بتصفية مواطن أميركي من دون محاكمته؟ مَن يحدّد هوية الحرب على الارهاب وتقنياتها وحدودها؟ ماذا عن ولع أوباما بطائرات الرصد من دون طيار؟ أسئلة كثيرة طرحها المراقبون والحقوقيون وبعض السياسيين. النقاش بدا محموماً والجوّ ملائماً للتصعيد، لا بسبب صحوة ما حول مغالطات «الحرب على الارهاب»، بل لأن موسم تسجيل النقاط السياسية في الحملات الانتخابية الرئاسية قد بدأ.

أوباما القاضي والحكم والجلاد

«واشنطن بوست» استبقت موجة النقاشات، فنشرت بعيد خبر قتل العولقي مقالاً يكشف عن وثيقة سرية أصدرتها وزارة العدل الأميركية، قبيل تنفيذ العملية، تجيز فيها قتله. المقال يضيف أن العملية التي نفذت بإدارة «وكالة الاستخبارات المركزية» ومساعدة الجيش «لم تكن لتحصل لولا تلك المذكرة القانونية». أما عن مقتل سمير خان، المواطن الاميركي الثاني، الذي كان برفقة العولقي، فيشير المقال إلى أن «سي آي إي» كانت على علم بوجوده لكنه لم يكن المستهدف بالقتل.
«واشنطن بوست» ذكّرت بما قالته الادارة الاميركية بوضوح حول «قدرتنا على استهداف عناصر تنظيم «القاعدة» والقوات المرتبطة فيه خارج ميادين المعارك التقليدية في العراق وأفغانستان». مسؤول في الادارة الاميركية يشرح للصحيفة أن «قوانين الكونغرس والقانون الدولي تضمن للولايات المتحدة حق الدفاع عن نفسها بتصفية من يتآمر على قتل مواطنيها بغضّ النظر عن جنسيته». لكن رغم «التخريجة القانونية» لقرار القتل، نبش البعض مواد تقول إنه يحق استهداف الارهابي «اذا مثّل خطراً داهماً على الولايات المتحدة وأمن مواطنيها»، وهذا لم يكن حال العولقي. البعض الآخر أشار الى خرق واضح للمادة الخامسة من الدستور التي «تحظر قتل أي مواطن من دون محاكمته».
المحامي غلين غرينوالد، في موقع «صالون»، شرح عدم قانونية القرار، مشيراً الى أن أوباما كان «القاضي والحكم والجلاد» في قضية العولقي.
غرينوالد فنّد الثغر في قوانين مكافحة الارهاب التي بنيت حسبه على مبدأ «هذا إرهابي ويجب قتله لأن حكومتي تقول ذلك، اذ لا حاجة إلى إثباتات أو محاكمات». آراء اخرى طرحت حول جدوى مقتل العولقي، إذ رأى البعض أن هذا سيجعل منه شهيداً عند مؤيديه، ما سيرفع من رصيده أكثر. بعض المراقبين انتقدوا اعتماد الولايات المتحدة نفس الأسلوب الذي تنتقده هي عند الانظمة التي تستخدم التصفيات طريقة للدفاع عن النفس. لكن النواب والحقوقيين بدوا محاصرين بالقوانين المفتوحة للحرب على الارهاب التي تجعل كل الأمور مباحة لأجهزة الولايات المتحدة وجيوشها بهدف «مطاردة الارهابيين» و«بذريعة الدفاع عن النفس».
المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية، رون بول، انتقد قرار أباما علناً. وقال «لا أحد يعرف إن كان العولقي قد قتل أحداً أو لا، ومن المحزن أن يقبل الأميركيون بهذا القرار الأعمى». طبعاً لم يوفّر المدافعون عن أوباما فرصة للردّ على هؤلاء متسلّحين بالقوانين وبفشل تجربة الرئيس السابق في محاربة الارهاب. «أوباما هو الرجل الذي يحمينا»، حسم روجر سيمون في «بوليتيكو» كل الجدل.
جمعيات الدفاع عن حقوق الانسان وبعض المؤسسات القانونية سألت من جهتها: هل يحق للرئيس الأميركي أن يقتل مواطناً بقرار إداري من دون الاستماع لأقواله ومحاكمته على نحو عادل؟ «لوس أنجليس تايمز» أوردت بعض التساؤلات حول مدى تورط العولقي الفعلي في كل الاحداث التي ورد ذكره فيها، وهنا أكد البعض أن لا دليل حسياً ومؤكداً على ارتباط الرجل مباشرة بأحداث «فورت هود» أو تفجير طائرة الركاب.
لكن جواب الادارة كان جاهزاً وجاء على لسان أوباما نفسه: العولقي «كان مسؤول العمليات الخارجية في القاعدة»، إذاً يمثّل تهديداً مباشراً لأمن البلاد ونقطة على السطر.

الولع بالطائرات من دون طيّار

خبر تصفية «مسؤول إرهابي آخر» لم يكن كافياً، بل إن أوباما وإدارته تباهوا بتفصيل آخر هو طريقة قتل العولقي: لا قتلى بين جنودنا، لا ضحايا مدنيين، لا حروب كبيرة، لا تكلفة باهظة... بل طائرة من دون طيار نفذت مهمتها وعادت سالمة.
هذا التفصيل لم يغب عن تعليقات الصحافة التي تساءلت عن «سرّ ولع أوباما بهذا النوع من العمليات» (٢٢٧ عملية في باكستان وحدها). «من الواضح أننا تعلمنا الدرس جيداً من الحروب الكبيرة»، يقول ميكا زينكو من «لجنة العلاقات الخارجية» لـ«نيويورك تايمز». ويردف «الخسائر البشرية والمادية في الحروب ضخمة جداً والنتائج غير مضمونة». من جهتها، لفتت الصحيفة الى أن اعتماد هذا النوع من العمليات هو أيضاً ثمرة التعاون/ التزاوج بين وزير الدفاع الحالي ـــــ مدير الاستخبارات السابق ـــــ ليون بانيتا وبين مدير الاستخبارات الحالي ديفيد بيترايوس.




«مات العولقي... لم تمت القاعدة»

معهدا «واشنطن لسياسات الشرق الادنى» و«بروكينغز» لم يريدا أن يغطي الاحتفال بمقتل أنور العولقي على النداء العاجل لتدخل أميركي أكبر في اليمن.
دانييل غرين من «معهد واشنطن» يقترح توسيع المهمات الدبلوماسية الأميركية في البلد وزيادة الدعم المالي والتقني والسياسي للقضاء على «القاعدة». مايكل نايتس من المعهد ذاته يشرح «المعضلة» التي تواجهها الولايات المتحدة في اليمن: إذا صفّت القوات الاميركية قادة «القاعدة» في الجنوب فسيشبهها الجنوبيون بقوات النظام ويقاتلوها. والادارة الاميركية لا تستطيع دعم النظام لانه لا يلبي طموحات الثوار. لذا، فالابقاء على هذه الحال سيقوي «القاعدة» ويمكنها من انتزاع سلطة أكبر، يستخلص الكاتب.
بروس ريديل، من «بروكينغز»، ينبّه الى خطورة استمرار الفوضى والنزاعات في اليمن بعد عودة الرئيس علي عبد الله صالح. لأنه، حسب ريديل، «كلما غابت سلطة الدولة والقوانين زادت القاعدة من توسعها في البلد». لذا يقترح الكاتب إزاحة صالح عن الحكم «والبدء بإنقاذ الوضع اليمني».