معروف عن وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، هوبير فيدرين، أنه صاحب نهج الواقعية السياسية في قراءته للعلاقات الدولية ولتطور الأحداث. ومعروف عنه أيضاً هواه الاشتراكي العام في السياسة الداخلية والخارجية. هو يغلّب المنحى العقلاني المنفتح على الجمود العقائدي، ولهذا فهو محل تقدير لدى جميع المتعاطين في الشأن العام من كل المشارب السياسية، الأمر الذي دفع بوزير الخارجية الأسبق جان فرنسوا بونسيه، وهو الشخصية اليمينية المرموقة في الحزب الحاكم اليوم (الاتحاد من أجل الحركة الشعبية)، إلى وصفه بـ«الأفضل في ما بيننا» في أحد المؤتمرات في مجلس الشيوخ.
يرى فيدرين، وبخلاف الاعتقاد السائد لدى البعض، أن لا وجود لاستراتيجيا غربية مهيمنة واحدة حيال «الربيع العربي»، بل ثلاث رغبات أساسية، ويشير إلى أن العملية السياسية والحربية التي أطاحت العقيد معمر القذافي كانت نتيجة تقاطع عوامل داخلية وخارجية، ولم تكن ترجمة لعقيدة «تغيير الأنظمة». حتى إنه يرى أن ما جرى في ليبيا لا يمكن سحبه على مكان آخر «في الوقت الحاضر»، في سوريا ذلك على سبيل المثال، إن كل «الدول المحيطة بها تخشى سقوط النظام الحالي». غير أن فيدرين لا يجزم باستحالة تطبيق مبدأ «مسؤولية حماية السكان» في دولة أخرى. أما بالنسبة إلى«الربيع العربي»، والدولة الفلسطينية، فهو يرى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان ضحية وعوده وعدم تقديره الواقعي لنفوذ حزب «الليكود» في المؤسسات الأميركية نفسها. أما بالنسبة إلى موقف باريس من قضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فيتمنى الوزير لو كانت سياسة بلاده أكثر شجاعة وأقل غموضاً، داعياً إلى رص صفوف التيارات الديموقراطية والتحديثية في العالم العربي، لتشكيل جبهة تنضوي فيها هذه الأحزاب، ذلك أن «موازين القوى المحلية هي التي سوف تحدد مستقبل الربيع العربي».
تسأل وزير الخارجية الأسبق عما إذا كانت هناك استراتيجيا غربية مهيمنة في ما يتعلق بالشرق الأوسط في أعقاب «الربيع العربي»، فينفي من دون تردد: لا أعتقد بوجود استراتيجيا غربية أو أوروبية أو حتى عربية واضحة ومحددة حتى الآن حيال هذه الظاهرة، وهذا ينطبق أيضاً على الحكومتين الإسرائيلية والتركية. وفيما يوضح أن ثمة اختلافات جمة وتحليلات متعارضة حول المصالح الآنية والبعيدة، فإنه يرى أن استخدام عبارة «استراتيجيا» (إزاء الربيع العربي) في غير في محله، لأن هذا المصطلح يوجب وجود إرادة وعزم واضحين، وطموح يتجسد من خلال بلورة رؤية على المدى البعيد، وترجمة تكتيكية يوماً بيوم.
ويتابع في تحليله بالاشارة إلى انه «لو راقبنا الحد الوسطي للسياسات الغربية، نجد أن الغربيين سيكونون سعداء إذا حققت الحركات الجارية على الأرض أهدافها من الديموقراطية من دون خلق الفوضى، ومن دون أن تؤدي إلى إعطاء سلطات واسعة للإسلاميين»، رغم اعترافه بأن الجميع يتوقع وصولهم إلى احتلال مقدمة الفائزين في الانتخابات المقبلة في دول «الثورات العربية». وعن هذا التوق، «يمكن القول إنه رغبة أكثر منه استراتيجيا» على تعبير فيدرين. بكل الأحوال، فإن ضيفنا يذكّر بأن الحركات التي يشهدها العالم العربي حالياً «تطاول بعض البلدان دون غيرها، وإذا كان هناك من استراتيجيا، فكان لا بد من وضعها لكل بلد بمفرده».
ورداً على سؤال حول عقيدة «قلب الأنظمة»، وعما إذا كانت حقيقة واقعة اليوم أم مجرد تخمينات، فيجيب بأنها «ليست معطى واقعياً، وهذه العقيدة تجسدت في الواقع الفعلي وبطريقة وظائفية في عهد الرئيس السابق جورج بوش. وكانت قد أمست هدفاً في حد ذاته. بالطبع ثمة بعض الغربيين الذين لا يزالون يؤمنون بتلك العقيدة لأنهم تحت تأثير المحافظين الجدد، لكن هذا التيار ليس تياراً قوياً، إذ فقد صدقيته على مدى واسع إثر السياسة التي اتبعها بوش في العراق». ويستدرك بأن «هذه العقيدة لم تترجم في الحالة الليبية، إذ لم يكن هناك نوايا مبيّتة مسبقاً لدى الغربيين، بل إن التجربة الليبية هي حصيلة وضع تشكل بطريقة فريدة حيث اندلعت انتفاضة سرعان ما طالبت بالمساعدة الخارجية لتفادي التهديدات المخيفة للقذافي، فضلاً عن أن مجلس تعاون دول الخليج والجامعة العربية طالبا بإقامة مناطق حظر جوي هناك، وهذا ما أدى إلى استصدار قرار مجلس الأمن باسم مسؤولية الحماية». وفي السياق، يبدو فيدرين متأكداً أنه «لو امتنعت الجامعة عن المطالبة بهذا الإجراء، لكانت الصين وروسيا مارستا حق النقض (الفيتو)». وعن الموضوع نفسه، يلفت إلى ان العملية العسكرية لحلف شمالي الأطلسي تخطّت هدف حماية المدنيين بسبب عوامل عديدة، «ولا أعتقد بأن كل ذلك حصل بنتيجة عقيدة معينة، لذلك هذه الحال لا يمكن سحبها على مكان آخر في الوقت الحاضر».
لكن ماذا يقول الوزير الفرنسي الأسبق لعدد من الباحثين الأميركيين الذين يرون أن أوباما نفّذ صيغة «ناعمة ومخففة» لعقيدة «تغيير الأنظمة»، حين اعتمد أسلوب «إدارة الأمور من خلف الستارة» في الحالة الليبية؟ هنا يجيب فيدرين بأنه غير موافق على هذه التحليلات، «ففي الواقع، الولايات المتحدة كانت أمام انتفاضة تستحق الدعم، لكنها لم تكن تحظى بالأولوية بالنسبة إليها في ظل وجود تحديات كبرى في أفغانستان وباكستان والعراق والشرق الأوسط الجامد كلياً، ولم يكن في نيتها حشر نفسها في ليبيا، لكن في الوقت نفسه لم يكن بإمكانها رفض التدخل الكامل». وفي الإطار، يذكّر كيف أن أوباما أعطى جواباً فيه من التردد الشيء الكثير حيال التدخل في ليبيا، وهو ما فعلته فرنسا وبريطانيا حتى، عندما استخدمتا الأدوات اللوجستية التابعة لحلف شمالي الأطلسي في الضربات. وبرأي فيدرين، فإنّ هذا التردد الأميركي هو ما دفع البعض إلى محاولة الإيحاء بأن واشنطن كانت زعيمة الموقف، وهذا ليس صحيحاً، ذلك أنها تأقلمت مع وضعية صعبة فحسب، «وعبارة القيادة من خلف الستارة اختُرعت لاحقاً لإعطاء الانطباع بأن الاستراتيجيا الأميركية المتبعة كانت مدروسة ومخططاً لها مسبقاً». ويخلص إلى القول إن ما حصل في ليبيا لا علاقة له بعقيدة «تغيير الأنظمة»، حتى إن القوى الغربية «لم تكن راغبة في قلب نظام القذافي في البداية، إلا أن السلوك الأحمق للزعيم الليبي السابق هو الذي سرع في إسقاطه».
وحين تفاتحه بأن مبدأ «مسؤولية حماية المدنيين» الذي طُبق في ليبيا يواجه صعوبات في تكراره في الحالة السورية، يستطرد بالقول إن «المجلس الوطني السوري لا يطلب تدخلاً أجنبياً حتى الآن، وربما يغير رأيه، لا أدري، حتى الدول المحيطة لا تطالب بذلك، على العكس، فهم يرون أن النظام وحشي أكثر فأكثر لكنهم يخشون سقوطه». من هنا، يعرب فيدرين عن ثقته بأن الحالتين الليبية والسورية مختلفتان، فضلاً عن الحزم الروسي والصيني في منع تكرار السيناريو الليبي، وفضلاً عن دعمهما من دول ناشئة في مجلس الأمن. إلا أن الوزير الفرنسي يحذر من أنه «ليس بالضرورة أن تنتهج الدول الناشئة طول الوقت خطاً واحداً، حيث من الممكن أن تعقد صفقة بين دول غربية وبعض الدول الناشئة، إذ لا بد لفهمنا حقيقة المواقف من النظر إلى طبيعة المفاوضات التجارية الدولية والقضايا الاقتصادية الكبرى وحروب العملة». تحليل يقود فيدرين إلى حد التأكيد أن ما جرى في ليبيا هو «أمر استثنائي» ظروفه غير موجودة اليوم في الحالة السورية، رغم أنّ «من الممكن أن تتطور الأمور بطريقة سلبية ميدانياً لتحرج الدول المعارضة والتي لا تزال تسد الطريق على عدد من الدول الغربية».
وعن موقف الرئيس الأميركي حيال قضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، يشدد فيدرين على أن أوباما وقع ضحية تصريحاته ووعوده «سواء حصل الربيع العربي أو لم يحصل، فهو أوحى بآمال هائلة خصوصاً حين طلب من (رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين) نتنياهو تجميد الاستيطان، والمفارقة هي أننا كنا في حضرة رئيس منفتح جداً على طلبات الفلسطينيين في البداية، وألقى خطاباً رائعاً حول العلاقات بعيدة المدى بين الغرب والبلدان العربية، لكنه لم يتمكن من كسب الكباش مع الحكومة الإسرائيلية لأنه لم يزن كما يجب نفوذ حزب الليكود في المؤسسات الأميركية الحالية».
أما بالنسبة إلى موقف مراكز القرار الغربية التي دعمت «الربيع العربي»، والتي توحي بأن هذا الدعم يقف عند حدود الرابع من حزيران 1967، على حد تعبير رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في البرلمان الأوروبي، يجيب فيدرين بأن مراكز القرار الغربية «تجد في الربيع العربي أمراً محبباً تنوي مساعدته، لكن إذا أدّى هذا الربيع إلى إقامة دولة فلسطينية فإننا نواجه الصعوبات التقليدية نفسها، لذلك، لا يجرؤ الألمان والهولنديون على الذهاب أبعد من مواقفهم الحالية، إذ من المعروف أن قسماً من الدول الأوروبية يرتعب لحظة سماعه بالمطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية». وهنا يعود ليذكر كيف أنه لحظة اعتراف الأوروبيين بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم عام 1999، أصبحوا مشلولي الحركة حيال طلب الاعتراف بالدولة، إذ رفضت ألمانيا ذلك منذ البداية، وموقف فرنسا غامض نوعاً ما، «وكنتُ آمل أن يكون أكثر شجاعة، ومع أن خطاب الرئيس نيكولا ساركوزي في الأمم المتحدة كان جيداً، إلا أن موقف باريس غامض وعلى سبيل المثال امتنعت فرنسا عن التصويت حول قبول عضوية الدولة في منظمة الأونيسكو».
ويعيد هذا الموقف الفرنسي الخائف إلى دواعٍ انتخابية أو لأسباب أوروبية، إذ ينزعج المسؤولون الفرنسيون جداً اليوم من أن يكون هناك موضوع خلافي جديد مع الألمان، «لأننا لن نحصل أبداً على موافقة ألمانيا إذا سألناها مسبقاً عن رأيها حول الاعتراف بالدولة من عدمه. أما إذا وضعناها أمام الأمر الواقع، فإن ألمانيا ستتبع خطانا شيئاً فشيئاً».
وبالعودة إلى «الربيع العربي»، نسأل ضيفنا عن رأيه بمن يتخوف من تكرار الاعتقاد السائد قبل الثورة الإيرانية عام 1979 لدى شريحة كبيرة من أصحاب القرار الغربيين بأنه «يكفي إسقاط الديكتاتورية للوصول إلى الديموقراطية»، لمحاولة معرفة ما إذا كان يعتقد بأن السيناريو نفسه سيتكرّر مع احتمال وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في تونس ومصر وسوريا. وحول هذا الأمر، يقر بإمكانية المقارنة بين ما جرى فجأة في إيران 1979، وبين ما يحدث الآن في عدد من البلدان العربية، «ذلك أن الرأي العام الغربي بالاجمال أعرب عن خشيته قبل 32 عاماً حيث قالت أوساط نافذة في ذلك الوقت ما مفاده: انتبهوا من إسقاط الديكتاتوريات، فسيحل مكانها ديكتاتورية إسلاموية. وبما أن العديد من الأنظمة استفادت من هذا الاعتقاد طوال كل هذه المدة، فقد تغير موقف الرأي العام الذي لم يعد يقبل بهذا الواقع على حساب التطور الديموقراطي والحريات العامة».
كل حجج فيدرين يرغب بتوظيفها لتثبيت رأيه بأن السلوك الأوروبي إزاء «الثورات العربية» ليس انعكاساً لاستراتيجيا بل لآراء ومواقف تلاحق الحدث، إذ «ما من أحد في فرنسا أو أوروبا أو الولايات المتحدة له اليد الطولى في تحديد مصير الانتخابات التي ستجرى في تونس أو المغرب أو مصر... فما يعبّر عنه يدخل في إطار التحليل والتعليق والآمال وبواعث القلق».
وعن توقعاته حول مستقبل الأوضاع في الدول العربية التي سقطت فيها الأنظمة، يعرب عن اعتقاده بأن «اللعبة لم تحسم بعد، ومن المحتمل أن تحتل الأحزاب الإسلامية المراكز الأولى في الانتخابات المقبلة لأنها منظمة جيداً، ولأن التيارات الديموقراطية ليست متماسكة وليست موحدة». ويضيف أن «الجديد هو أن الجميع لن يؤخذوا على حين غرة كما جرى الأمر في 1979 في إيران، فالمجتمعات العربية أكثر اطلاعاً من الماضي ومنفتحة على التطورات وعلى ما يحدث حولها. كما أن هناك صعوبات جمة لوضع اليد على السلطة نظراً لوجود مسارات متعددة الأطراف منها الأوروبية أو تلك التي هي في إطار مجموعة الدول العشرين، وهي على علاقة بمواكبة هذه التحولات في البلدان العربية».



هوبير فيدرين، الدبلوماسي الأقوى في فرنسا زمن حكم اليساريين بين عامي 1997 و2002، هو أحد أبرز أسماء «مبادرة تحالف الحضارات» التي أطلقتها الأمم المتحدة في 2005. ومنذ انتهاء عمله وزيراً للخارجية، يتفرغ الرجل للعمل في مجال الاستشارات الاستراتيجية وفي إصدار المؤلفات السياسية وإدارة «مؤسسة هوبير فيدرين».